أكثر من ربع قرن أعمل في مهنة الجراحة النسائية والتوليد وعلاج العقم، تلك المهنة التي سرقت من حياتي الكثير الكثير من الأيام واللحظات، مليئة كانت باحتراق الأعصاب والتوتر وقلة النوم التي ترافقني منذ التوجيهي، فلم تمضي ليلة منذ 25 عاما إلا وسرقت منها هذه المهنة هدوءها وانتزعتني من أحضان فراشي راكضا لاستقبال حياة جديدة أو للحفاظ على حياتين.
ساعات طويلة في عمل يحتاج أن يكون الجسد والعقل في قمة التركيز والجاهزية، مئات من الأسئلة التي تطرح عليك يوميا لا بد من إجابتها، عمليات جراحية وولادات وفرحة من أصبحت أمّا ومن تحاول جاهدة للحصول على هذا الشعور.
أكثر من ربع ألف من المكالمات الهاتفية يوميا.. القليل القليل منها ملحا وما تبقى لا ضرورة له لكنك مجبور على الإجابة فأنت لا تعرف المخفي خلف هذه الرنّة طارئا أم لا، يؤنبك ضميرك إذا لم تجب فلعل خلف هذه الرنّة مصيبة تستنجدك إحداهن لدرئها.
من الصعب جدا إرضاء الناس وخصوصا النساء، لكن الحقيقة الثابتة أن ما تتحمله النساء من معاناة تعجز عنه كتيبة مدججة بالرجولة.
ظلم في البيولوجيا وظلم في علم الاجتماع يقع على روح وجسد المرأة يفوق الخيال، يجعل ما نقدمه لها من فتات لا يقارن بما تقدمه لنا من حياة.
25 عاما أعمل في مصنع للحياة كان نتاجه آلاف مؤلفة من فلذات أكبادكم وأعز ما تملكون من مصدر للفرحة والمفخرة، أحلم يوما أن أجمعهم وإياكم جميعا في احتفال قد يحتاج لملعب كرة قدم لاستيعابه.
انجازات أفتخر بها أكثر من كل السياسيين في هذا الوطن الذين لم نعد نقوى على تعويض ما أزهقوه من أرواح.. نبذل نحن معشر الأطباء كل جهد وقطرة علم وعرق للحفاظ عليها ليضيّعوها وبالآلاف على مدار سنوات طويلة دون حساب أو عتاب، حتى أصبح الشعور أنك تنتج أرواحا وهم يزهقوها بقرارات غبية ونظل نهلل لكل هؤلاء الأغبياء وهذا الغباء.
رؤية اندماج خليتين تحت المجهر ثم انقسامات لتكوين معجزة خلقه سبحانه وتعالى، ذلك الجنين الذي كنّاه جميعا يوما ما، ليبدأ رحلة مليئة بالعذاب ومحفوفة بالمخاطر والألم والمشاعر في رحم يحضنه ويلفظه بعد 9 شهور ليس كرها ولا تعبا بل ليكون الحضن الدافئ موقعه بدل الأحشاء.
سماع النبض الأول للحياة الذي ما إن تسمعه حتى يرقص له القلب وترتجف له الأبدان.
سماع الصرخة الأولى لطفل معلنا بدء حياة جديدة وخاتما لساعات من صرخات أمه مستبدلا إياها بابتسامة ليست ككل الابتسامات، لتتغير دمعات الألم إلى دمعات فرح شاكرة الله على هذه الهبة وتخليصه الروح من الروح ليعلن عن بداية أسرة جديدة لزوجة وزوج اشتاقا أن يكونا أبا وأما لسنوات.
كل هذه المشاعر التي لا تشبه أي شيء نعرفه نعيشها لحظة بلحظة حلوها ومرها نجاحها وفشلها تراقصنا على شط الحياة تارة وعلى شط الموت تارات لتعود إلى فراشك الذي تركته دافئا لزوجة عانت معك الكثير وأولاد صار حلمهم الأكبر أن يرونك وحلمك أن تقضي قليلا من الوقت معهم دون أن تسرقك منهم حالة طارئة أو مكالمة هاتفية غير طارئة لدرجة أن رنّة الهاتف المخصصة للمستشفى أصبحت تستفزهم أعلى درجات الاستفزاز.
ما إن تنهي يومك بصراخ مولود جديد وابتسامة أم وأب جديدين أو إنقاذ أم بعد معركة مع الموت تهزمه فيها لتعود إلى يومك القادم مشحونا بكل الطاقات.. طاردا كل مشاعر التعب والإحباط فالقوة التي بين يديك عظيمة.
قوة المعرفة… وقوة إنقاذ الروح… وقوة حاجة الآخرين لك أمام المرض والجهل والموت… وقوة إدراكك أنك الأقوى وأن جسدك متعب وضميرك مرتاح لما أخذته منك هذة المهنة العظيمة اللعينة وما أعطيت للآخرين من حياة.
كل هذه القوى وكل هذا الجبروت هو أنت أنت أنت.