لقد افتقدت ككثيرين مشتتين عن ديارهم وأهلهم وذويهم لمة العائلة في رمضان، وكان ومازال عزائي الوحيد هو نضالنا المستمر لاسترجاع حقوق وظيفية سلبت منا قسرا في سنوات الانقسام البائس، إلى جانب نضالنا ضد الاحتلال، لذلك لا أكترث ما هي الوجبة التي قد تملأ فراغ المعدة بعد يوم طويل من الصيام، فاضطررت للبحث في مطاعم المدينة التي يمكن الاعتماد عليها كملاذ في أيام رمضان للإفطار بها، فتوجهت في إحدى المرات مع صديق إلى أحد المطاعم لحجز مكان الإفطار، باعتباره من قلائل المطاعم التي يمكن أن تقدم وجبات في أوائل أيام الصيام، فاضطررنا للحجز فيها بعد بحث مضني وشاق، وهو عبارة عن بوفيه مفتوح سعر الوجبة فيه 35 دولارا أمريكيا للشخص الواحد، ورغم أن المطعم محلي بل وكان يتبع إحدى الجمعيات الخيرية سابقا، حقيقة تجرعت الموضوع لأيام حتى تتضح لي الرؤية جليا، والأفكار تراودني لما هذا الغلاء الفاحش؟! ، لما هذا الغلاء المفتعل ! رغم أن كل ما يقدم هنا عادي جدا، ولا يختلف فيه إلا مسميات الأطباق، فيكفي وضع بعض أوراق الخس وتقطيع الجبنة المالحة طرنشات، وقليلا من الزيتون المبشور لنقول عنها سلطة يونانية أو يابانية أو مالطية، فيما الطبق الرئيسي تبحث عنه بعد طابور البوفيه لتجد أنه عباره أرز مبهر عادي وقطعة من ربع الدجاج بالكاد، وبعضا من البطاطا المسلوقة أو قطعة لحمة خروف.
المهم أن كل ذلك لم يقنعني بوجبة تصل لـ 35 دولارا للفرد الواحد، دارت الأيام وتنوع مكان إفطاري فقررت تغيير التكتيك واختبار كنتاكي الأمريكية في رمضان علّي أجد ضالتي، واعتقدت أن الأسعار يمكن أن تختلف في رمضان، وأن تكون أكثر غلاء من الأيام العادية، والمفاجأة كانت بأني حصلت على وجبة بقطعتي دجاج ورزها وبطاطتها وعصيرها فقط ب 7 دولار، وحققت كل ما كان يمكن أن تحققه وجبة الـ 35 دولار المحلية ولكن بنكهة أمريكية، هنا أدركت أن كل ما يجول في خاطري هو حقيقة أن رام الله بالذات كمدينة عصرية ذات طابع تاريخي معاصر، تعاني من غلاء أسعار مفتعل وغير مبرر ومن جهات متنفذة رأسمالية، ومنها من هو له علاقة بالسلطة، وحاولت أن أجد مبررا، باعتبار أن تلك المطاعم ايجاراتها عالية التكلفة فقد يكون ذلك سبب ارتفاع أسعار الوجبات والخدمات لموظفيها، لكن المقارنة بين مطعم يقدم وجبات أمريكية يقع في أهم مواقع مدينة رام الله ومنتصفها وأفخمها لكنه لا يصل بأسعاره إلى هذا الغلاء مقارنة بالمطاعم المحلية، بل إن الوجبة المحلية للفرد تعادل 5 أضعاف الوجبة الأمريكية وبحجم عائلي، كانت هذه مقارنة بسيطة فتحت لي الأبواب على مصراعيها، للتفكير الطويل والممل والمرهق للفجوة الاقتصادية التي حدثت خاصة بعد اتفاقية أوسلو، وقد سألت كثيرا من المقيمين الذين أكدوا لي أن هذا الغلاء جاء بعد السلطة الوطنية، وشمل كل مناحي الحياة من شقق وأراضي ومحلات وملابس، بل إن من كتبوا عن سعر فنجان القهوة الذي يصل إلى 5 دولارات وأكثر لم يبالغوا وهو يفوق سعر فنجان القهوة في شارع الشنجلزيه بفرنسا.
وهذه الحقائق الصادمة تجعلني أفكر أكثر بين اقتصاد غزة المنهار والحياة هناك، خاصة بعد الحصار والدمار إلا أنها حافظت على كثير من مصداقيتها في الأسعار، ولم تصل إلى هذه الدرجة المبالغ فيها رغم صعوبة وصول السلع الأولية والأساسية ودخولها القطاع، رغم ذلك فإن رام الله الوردية ذات المعابر المفتوحة والاقتصاد المفتوح بات اقتصادها ينهش سكانها الذين تتراكم عليهم الديون للبنوك ليسددوا مصاريف شققهم وسيارتهم بل ومرهونين بحياتهم لها، والأهم من ذلك كيف للموظف الذي لا يختلف راتبه في غزة أو الضفة أن يتعايش في الجغرافيتين وبنفس الراتب، علما بأن موظف غزة اليوم الذي يعاني الاستقطاع والقطع والراتب المتقطع يتعايش بصعوبة ومستورا، بينما موظف الضفة بالكاد يتعايش مع واقع الاقتصاد عالي التكلفة وبند غلاء المعيشة لا يغطي ذلك، إننا أمام فجوة اقتصادية بل وزمنية، وبين جغرافيتين متباعدتين ليس فقط بالانقسام بل بالاقتصاد، وهنا استحضر برلين الشرقية وبرلين الغربية، وكان من أهم موانع هدم الجدار هو سؤال كيفية الاقتصادين أن يلتقيا في حال هدم الجدار، هذه الأزمات تعالت ولم تحلها السلطة لأنها تعتبر نفسها ضحية وليست مسؤولة، ووزير الاقتصاد الشاهد الغائب في الموضوع، وحين نذكر اتفاقية باريس (مع أني لست خبيرا اقتصاديا) فإنها تمشي بطريق أحادي الجانب من قبل إسرائيل التي فرضت واقعا اقتصاديا في الضفة يختلف تماما عن الواقع الاقتصادي في غزة، فحتى أريحا التي من المفترض أن تستهدفها الاتفاقية أولا اصبحت ذات أسعار سياحية خيالية أرهقت حتى مواطنيها، وبالتالي اصبحنا أمام اتفاقية صورية ليس لها علاقة بأرض الواقع أي صلة.
بالنهاية أقول إننا نهاجم السياسة الأمريكية التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي وخاصة بعد نقل السفارة، إلا أننا ما زلنا نشرب دخانها، ونأكل وجباتها، ونلبس جينزها لأن الحكومة الفلسطينية لم تترك لنا مجالا للمقاطعة ولم تنهض باقتصاد مقاوم حتى الآن وهذا ما يرهق منظمات المقاطعة BDS، بل إننا نذهب لمخيمات لبنان وسوريا فنجد مقاطعة حتى للمنتج الأمريكي، فيما هنا مكرهين نتناول حتى المنتج الإسرائيلي لأنه لم يخلق البديل في كثير من السلع، بل وأكثر من ذلك الهروب من الغلاء الفلسطيني يدفعنا نحو فك المقاطعة لنهتف فداكي كنتاكي .