بقلم: د. عمار الدويك
أكتب هذه المقالة على ضوء ما دونته عبر صفحتي الشخصية على الفيسبوك يوم أمس ضد اعتقال عشرات المفطرين في رمضان من قبل جهاز الشرطة في رام الله، وما سببته كتابتي من استقطاب بين مؤيد لموقفي باعتبار أن الحرية قيمة عليا وخيار ذاتي لا يجب للدولة ان تتدخل فيه، وبين معارض لي باعتبار أن شهر رمضان المبارك واحترام حرمته هو من قيم المجتمع الفلسطيني الأساسية التي يجب أن يحترمها الجميع، وإذا لم تحترم طوعا يجب أن تحترم كرها من خلال الشرطة.
كثير من الإسلاميين أو ذوي التوجهات الدينية يؤمن بأن للحرية تعريفا موضوعيا وليس تعريفا ذاتيا. بمعنى آخر أن الحرية ليست ما يقرره الشخص لذاته وما يختاره لنفسه، وإنما هناك مفهوم موضوعي منفصل عن خيارات الشخص يتمثل في الالتزام بأحكام الإسلام. فوفقاً لهذا الفهم، لا يكون الشخص حراً حقا إلا إذا التزم بأحكام الدين وأسلم وجهه لله، عندها تتحقق حريته. فخضوعه لله سبحانه وتعالى سوف يحرره من أي خضوع لأي قوة بشرية خارجية أو لأهوائه ورغائبه الداخلية. أما الحريات الذاتية، التي يقررها الشخص لنفسه، فهي إن لم تكن متوافقة مع الدين فهي حرية متوهمة وغير حقيقية بل هي العبودية للذات ورغائبها أو للسطان (أو للطاغوت).
خطورة هذا الفهم للحرية، يتمثل في أن أغلب الذين يدينون بهذا الفهم، يؤمنون في ذات الوقت أن الإسلام لا يمكن أن يتحقق بشكل كامل وصحيح إلا في إطار الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة. فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وبما أن هناك تعريف موضوعي للحرية، فإنه من الطبيعي أنه بمجرد تحقق السلطان للإسلاميين من خلال الدولة، يتم فرض هذه "الحرية الموضوعية" على الفرد باستخدام أدوات الجبر التي تملكها الدولة. فيصبح من واجبات الدولة بسلطاتها وأجهزتها إجبار الفرد على طاعة الله، أو على عدم معصيته. فيتطابق مفهوم الخطيئة مع مفهوم الجريمة ومفهوم الفضيلة مع مفهوم القانون، وتصبح الخطيئة جريمة تستوجب العقوبة والفضيلة واجب يترتب على عدم الالتزام بها الجزاء في الدنيا.
هذا الكلام ليس افتراضيا، وإنما هو افتراض حقيقي. فتجارب الإسلاميين في الحكم تظهر أن الأولوية تعطى لفرض "الحرية الموضوعية" على الأفراد كما تفهمها المرجعية الدينية للدولة. فتنهمك الدولة وأجهزتها في فرض فهم محدد للأخلاق والفضيلة على المواطنين. وفي النماذج الأكثر تطرفا يصل تدخل الدولة إلى تحديد شكل لباس المرأة باعتباره عنوان الفضيلة، ويساق الناس إلى المساجد باعتبار الصلاة عمود الدين، وينتشر أفراد أجهزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتفتيش على محلات الحلاقة للتأكد أنها لا تقوم بحلق اللحى، وتمنع الموسيقى ويحظر الاختلاط والخلوة، وتمارس الدولة وصايتها على الفرد من أجل إجباره على ممارسة الحرية الموضوعية. هذه التجارب فشلت فشلا ذريعا، وسببت نفور كثير من الناس من هذا النموذج الإسلامي في الحكم، بل سببت ردة عن الدين ذاته، بل ورأينا في بعض المناطق الناس يخرجون عن دين الله أفواجا.
القرآن الكريم، يؤكد على الحرية الشخصية كمفهوم ذاتي وليس كمفهوم موضوعي، وعليه تحمل الإنسان مسؤولية شخصية عن تصرفاته (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) (كل نفس بما كسبت رهينة) (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وغيرها من الآيات البينات التي لا يحتاج أي شخص ذي لسان عربي إلى الرجوع الى تفسير الطبري او ابن كثير حتى يفهم معناها، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
والأخطر من هذه التجارب ذات التوجه الديني الواضح، هو النموذج السائد في أغلب الدول العربية ذات الهوية الملتبسة والمشوهة، فلا هي علمانية ولا هي دينية، مذبذبة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. تطبق، بانتقائية، بعض أحكام الدين من أجل كسب ود القطاعات المتدينة من الشعب للتعويض عن ضعف شرعيتها الانتخابية وعجزها عن حل قضايا المواطنين الاجتماعية والاقتصادية. فهي تأخذ مواقف وقرارات شعبوية بحبس مدون تجرأ على الله أو على رسوله، أو مصادرة رواية كاتب لم يراعي القيم والأخلاق العامة، أو تسجن مجاهر بالإفطار. دينها الرسمي الإسلام، لكنها ترعى البنوك التي يفرض فيها الربا أضعافا مضاعفة، وينخر الفساد والمحسوبية في أوصالها، وتستحوذ نخبة قليلة بالحكم والثروة ليبقى المال والحكم دولة بين الأغنياء منكم. وبات المواطن في هذه الدول يركب مراكب الردى ليموت في عرض البحر المتوسط مستجيرا من الرمضاء بالغرق. ولو كان للمواطن العربي في أغلب هذه الدول دعوة مستجابة لسأل الله فيها أن يسهل له طريقا إلى الهجرة إلى بلد كافر.
التجارب الإسلامية التي نجحت في الحكم، مثل تركيا وماليزيا هي التي أعطت الأولوية للتنمية وركزت جهدها على مواجهة مشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية وتوفير التعليم والصحة ومحاربة الفساد، بعيدا عن التدخل في الحريات الشخصية أو خيارات المواطنين التعبدية أو فرض أيديولجيات محددة على الناس. واعتبرت أن الحرية هي ما يقرره الشخص لنفسه وليس ما يقرر له من سلطة عليا. فقدمت نموذجا مشرقا عن الإسلام، فرأينا هناك الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
ورجوعا إلى موضوع التدوينة، وللإنصاف، ليس كل من عارض موقفي يحمل فكرا شموليا من هذا النوع. فالعديد ممكن كتب ضد رأيي ركز على سيادة القانون، باعتبار أن المجاهرة بالإفطار تعتبر جريمة بنص قانون العقوبات لسنة 1960. وهو القانون ذاته الذي يجرم انتقاد المسؤولين باعتبار ذلك جريمة إطالة لسان وقدح مقامات عليا، ويفرض عقوبة الإعدام على 16 جريمة، القتل واحدة منها فقط والباقي جرائم تتعلق بأمن الدولة، ويحظر التجمع لأكثر من ستة أشخاص دون ترخيص، ولا يجرم بشكل مناسب التعذيب وإساءة معاملة المحتجزين، ويبيح قتل النساء على خلفية الشرف، ويعفي مغتصب المرأة من العقوبة إذا تزوجها على كتاب الله وسنة رسوله، ويجرم العمل السياسي غير المرخص باعتباره تشكيل عصابات أشرار.
فسيادة القانون تقاس بأمرين، أولا ان يطبق القانون على القوي قبل الضعيف وعلى الرئيس قبل المرؤوس، بحيث يصبح سلطة عليا أعلى من كل الافراد تقيد أصحاب القوة لمصلحة الفئات الاضعف، وثانيا ان يكون القانون في مضمونه قانونا منصفاً وعادلاً. باختلال أي من الشرطين نتحول من سيادة القانون إلى السيادة بالقانون، فيصبح القانون أداة لسيطرة المسؤول والنخبة الحاكمة وتعزيز قوتهم وليس أداة لتقييدهم وكف يدهم.
أخيرا، آمل ان تقود واقعة حبس المفطرين، رغم أنها عابرة ولا تشكل سياسة لدى الأجهزة الرسمية لدينا، إلى حوار أوسع حول فهمنا للحرية، وفهمنا لعلاقة الدولة بالدين والعبادات، والأهم من ذلك تحديد أولويات مجتمعنا الذي بات يدخل مراحل متقدمة من التيه وعدم اليقين حول المستقبل.