الحدث ـ محمد بدر
إنه ما لا يخطرُ ببال، رخيصا، متوفراً، سهلاً، مطاطيا، قابلا للتكيف ويحقق نتيجته ناراً مشتعلة عندما يصل وجهته ومبتغاه.
لقد ارتقى الكوندوم "الواقي الذكري"، مرتقا صعبا في واقع يصعب فيه الحصول على الأشياء، ويسهل فيه التفكير في ما تبقى من أشياء، وأصبح الكوندوم من مادة على مواقع الجنس، إلى مادة كبيرة على مواقع الأخبار الإسرائيلية والفلسطينية وكذلك العالمية، حين اختار لنفسه أن يصبح سياسيا.
العالم يُرسل الكوندوم لغزة بدلا من معالجة الواقع
غزة؛ المكتظة بالسكان "لا بديل لها عن الكونودم"؛ افتراض عاجز. إذ تشير مصادر مختلفة إلى أن الكونودم في غزة تقدمه جمعيات ومؤسسات غربية لمواجهة ظاهرة الاكتظاظ السكاني. في عام 2017 أنجبت غزة 58 ألف مولود، أضافتهم إلى أكثر من مليوني نسمة يعيشون في مساحة لا تزيد عن 360 كيلومتر مربع.
لم يفكر العالم بتحسين الأوضاع المعيشية في قطاع غزة، واختار بدلا من ذلك أن يرسل لهم الكوندوم حتى لا تتفاقم الضائقة بسبب المواليد الجدد المفترضين، وهكذا يفعل العالم فعلته في قتل غزة مرتين، مرة في محاولة منعها من الإنجاب وقتل "المولود المفترض" ومرة من خلال الإبقاء على واقع معيشي صعب، أقل ما يمكن أن توصف حالته بأن تذكر عنه أنه: لا ماء لا كهرباء.
ذات مرة قرأت دراسة تفيد بأن المجتمعات التي تفتقد للكهرباء وتفتقد للأضواء يكثر فيها الإنجاب، ماذا يستطيع أن يفعل الإنسان في العتمة؟.. ماذا لو بحثوا حل مسألة الكهرباء مثلا وإعادة توصيل "الكهرب" بطريقة تحترم الانسانية فلا يعود يبحث الغزي عن طريقة يؤكد بها على إنسانيته واستمراريته وأنه موجود. ماذا لو بحثوا في زيادة المرافق والمؤسسات وزيادة النمو الاقتصادي لاستيعاب المواليد الجدد أطفالا وشبانا وشيوخا بكل رحابة وفي كل مرحلة من أعمارهم؟ لماذا هرب هذا العالم باتجاه للكوندوم؟!
لا حياء في المقاومة
إنه "الكونودم" الذي يأبى إلا وأن يعيد العالم كله إلى مطالب الناس، وقد هرب العالم إليه فقد أعاد العالم إلى المشكلة الأساسية.. مسيرات العودة لم تكن فرصة فقط لتجربة نموذج الكفاح "السلمي"، بل كانت كذلك تجربة لاختبار العقل الغزي، كنا دوما نتساءل كيف يمكن للمقاومة أن تستمر "هجومية" إذا توقفت بعض الدول والمنظمات عن دعمها بالصواريخ والعتاد والسلاح؟
مسيرة العودة وما استخدم فيها من أدوات أثبتت أن السلاح ليس ما يقتل فقط وينفجر، بل إن السلاح ما يؤلم.
وكما يُتيح "الكوندوم" للرجال في كل أنحاء العالم جنسا آمنا بعيداً عن الأمراض المنقولة جنسيا، فإنه يتيح للرجال المقاومين في غزة مقاومة "آمنة"، بعيدة عن الشجب الدولي وبعيدة عن التوصيفات المقولبة "إرهاباً" أو "عسكرة".
تماماً مثل الطائرات الورقية التي شكلت رعبا حقيقا لإسرائيل، إسرائيل شحيحة الموارد تواجه استنزافا لمواردها في الجنوب بفعل الطائرات الحارقة التي كلفت إسرائيل الملايين بالإضافة للإحباط الكبير الذي يعاني منه مستوطنو المستوطنات المحيطة بغزة.. والخوف.
ثم يأتي الكوندوم، الذي ضحك جميعنا أول الأمر عندما سمعنا به، ثم قلنا: لا حياء في المقاومة. فهو يأتي حارقا قاذفا للوجع الغزي في قلب المستوطنات ومحيطها على شكل نار، وليس في الأمر ما يخجل، إنه إثبات أمل، وإثبات أفق، وتعبير عن اللاخوف من المستقبل ومما سيأتي، بينما يعيش سكان مستوطنات غزة الخوف من القادم، ولعلّ بعضهم يقترح على بعض استخدام الكوندوم لأن مواليدهم الجدد سيجاورون غزة.
وبذلك يهزم الكوندوم إسرائيل مرتين، مرة عندما يسقط على محاصيل المستوطنين وأحلامهم بمستقبل جيد في أرض محتلة، ومرة حين يزيد نقصه من عدد المواليد في ظل ضائقة تشكّل معضلة للأمن الإسرائيلي باعتراف الأمن الإسرائيلي، وليس الأمر محصورا بضائقة المال والبضاعة، بل إن زيادة عدد سكان غزة في حدود جغرافية ضيقة يعني أن انفجار غزة في وجه الاحتلال مسألة وقت.