الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حرب الجواسيس.. قصة صراع الاستخبارات بين طهران وتل أبيب

2018-06-23 05:09:23 PM
حرب الجواسيس.. قصة صراع الاستخبارات بين طهران وتل أبيب

ملفات مميزة

في منتصف عام 2000، كان عقيد الاحتياط الإسرائيلي "ألحنان تننباوم" يعاني من ضائقة مالية شديدة إثر ديون تراكمت عليه بسبب إدمانه للقمار وفشل أعماله التجارية، ما جعله عرضة لمطاردة دائمة وابتزاز من الدائنين. ولأن الأمور بدت بلا أي أمل في الأفق، وفي خضم أزمته الكبرى، كان الاتصال الذي تلقاه من صديق طفولته العربي الإسرائيلي "قيس عبيد" بمثابة طوق نجاة غير متوقع وإعجازي لإنقاذ العقيد الإسرائيلي من أزمة عاصفة.

خلال لقائهما الذي تم ترتيبه لاحقا، عرض(1) "عبيد" بشكل مباشر على "تننباوم" العمل معه في صفقة مربحة لتجارة المخدرات يتوقع أن يحقق الثاني منها 200 ألف دولار كربح صافٍ، ولأن الرقم بدا للعقيد بمثابة فوزٍ بيناصيب من السماء، أثار المبلغ لعاب الإسرائيلي المتعثر ليوافق على السفر لدبي للقيام بدوره المفترض في مساعدة "عبيد" على تهريب المخدرات لإسرائيل. وفي ليلة الثالث من أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، طار تانينبوم لـ "بروكسل"، حيث التقى عبيد وصديقه "قايد بيرو" اللذين قاما بإعطائه جواز سفر فنزويلي مزور، ومن هناك قام العقيد باستقلال رحلة لفرانكفورت حيث استقل(2) طائرة تابعة لشركة طيران الخليج لدبي، وهناك وجد في استقباله رجلا يحمل لافتة مكتوب عليها اسمه اقتاده لسيارة ليموزين نقلته لأحد أحياء دبي، وهناك، تعرض لهجوم من قبل عدة أشخاص قاموا باختطافه ونقله للبنان على متن طائرة خاصة بشكل صاعق.

في لبنان، أدرك تننباوم أخيرا الحقيقة الكاملة: فلم يكن صديقه "قيس عبيد" سوى أحد الوكلاء الذين يوظفهم حزب الله في الداخل الإسرائيلي، بينما كان "قايد بيرو" هو الوسيط اللبناني المسؤول عن متابعته. وفي واقع الأمر، فإن تلك الحقيقة لم تغب كثيرًا عن الإسرائيليين، من وجدوا أنفسهم في مأزق ضخم حين خرج زعيم حزب الله "حسن نصر الله" في 16 أكتوبر/تشرين الأول لعام 2000 على محطة المنار التلفازية التابعة للميليشيات ليعلن(3) أن حزبه نجح في أسر عقيد إسرائيلي، حيث سبق أن مثل "عبيد" أمام محكمة عسكرية إسرائيلية في قطاع غزة بدعوى محاولته اختطاف إسرائيلي ونقله بالقارب للبنان.

إلا أن عبيد هذه المرة نجح في مهمته التي فشل فيها سلفا، مُوقعا في نهاية المطاف بفريسته قبل أن يفر للبنان هربا من الملاحقة ليوضع اسمه على قوائم المطلوبين في إسرائيل. كان صديق الطفولة "تننباوم" صيدا ثمينا بحق بالنسبة لحزب الله بحكم موقعه المهم في القيادة الشمالية لجيش الاحتلال، حيث كان يؤدي150 يومًا من الخدمة الاحتياطية سنويًا، وكان لديه الكثير من الأسرار العسكرية المهمة، فضلًا عن خوضه قبل خمسة أيام فقط من اختطافه أحد أكثر التمارين العسكرية حساسية وهو محاكاة افتراضية لحرب إسرائيلية شاملة مع حزب الله وسوريا.

تسبب اختطاف "تننباوم" في ارتباك كبير في الكيان العبري بسبب مخاوف من قيامه بكشف تفاصيل خطط الحرب الإسرائيلية المحتملة لحزب الله، لذا سعت تل أبيب لإعادته في أسرع وقت ممكن قبل أن ينهار تحت وطأة الاستجوابات، ولكن محاولاتها تلك انتظرت ثلاثة أعوام كاملة قبل أن تحقق نجاحا بطعم الفشل على الأرجح في يناير/كانون الثاني عام 2004، حين تم الإفراج عن العقيد الإسرائيلي كجزء من صفقة تبادل سجناء مع حزب الله بوساطة ألمانية مقابل 435 سجينا احتجزتهم إسرائيل، وعودة جثث ثلاثة جنود قتلوا خلال كمين على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية.

مثلت هذه العملية نجاحا غير مسبوق لحزب الله ورعاته الرئيسين في طهران في حرب الاستخبارات المفتوحة ضد إسرائيل، ذلك المجال الذي افتخرت إسرائيل دوما أنه ظل عصيا على خصومها العرب الذين واجهوا مشاكل تاريخية في تجنيد عملاء داخل إسرائيل، لكن يبدو أن إيران وحزب الله معا قادا جهدا أكثر تطورا وخطورة بكثير من خصوم إسرائيل الافتراضيين من الدول العربية، حيث لم تقتصر نجاحاتهما على تجنيد العرب الإسرائيليين، ولكنهم نجحوا في بعض الأحيان في اختراق المؤسسة الدفاعية نفسها وصولا لدوائر شديدة القرب من صانعي القرار في الكيان العبري، وبينما ظلت تلك الجهود مغلفة بالغموض حتى وقت قريب، إلا أن تل أبيب تلقت الصاعقة منذ أيام قليلة مرة أخرى، وبشكل أقوى بكثير: لقد نجحت طهران هذه المرة في تجنيد وزير إسرائيلي دفعة واحدة، في اختراق قلما يحدث لقبضة الكيان العبري الأمنية.

العقل الإيراني المدبر

يعود تاريخ تأسيس جهاز الاستخبارات الإيراني لعام 1957، حين تعاونت الولايات المتحدة، وللمفارقة إسرائيل، مع شاه إيران "محمد رضا بهلوي" لإنشاء منظمة الأمن الوطني والاستخبارات الإيرانية المعروفة باسم "السافاك". كان الهدف الرئيس للسافاك في البداية هو حماية النظام من اختراقات الشيوعيين وخاصة حزب "توده" الشيوعي المعارض للشاه، ونتيجة لذلك تم منح الجهاز صلاحيات واسعة في مراقبة الصحفيين والأكاديميين والنقابات العمالية، ما أكسبه سمعة وحشية بعد أن تحول لمنظمة غير خاضعة لأي قانون بشكل حرفي.

في ذلك الوقت، كان السافاك يوظف(4) قرابة 15 ألف وكيل بدوام كامل إضافة لآلاف المخبرين غير المتفرغين، كما أظهرت وثائق الجهاز التي تم الكشف عنها أعقاب "الثورة الإسلامية"، ومع ذلك، كان النشاط الخارجي للسافاك محدودا بشكل كبير قبل أن يتم حله نهائيا أعقاب الثورة، حيث أسست الحكومة الثورية الجديدة مجموعة من الوكالات الجديدة أيضًا على رأسها الوكالة الوطنية الإيرانية للاستخبارات والأمن "سافاما"، والتي تولت مهمة جمع المعلومات الاستخباراتية الخارجية، في حين تم تأسيس الحرس الثوري الإسلامي لحماية الثورة والتعامل مع التهديدات الداخلية، قبل أن يشارك هو الآخر في العمليات الأجنبية في وقت لاحق.

وفي أغسطس / آب 1983، وافق البرلمان على تشكيل وزارة المخابرات والأمن الإيرانية ودمج جميع الأجهزة الاستخباراتية داخلها، ليتم تأسيس الوزارة الجديدة بشكل فعلي في العام التالي مستفيدة(5) من خبرات وكلاء السافاك السابقين في الحرب العراقية الإيرانية، حيث استخدمتهم طهران لجمع المعلومات خلال الحرب، ولاحقا لاستهداف سلسلة المثقفين المعارضين الإيرانيين الذين انتقدوا نظام الجمهورية الإسلامية خلال الحرب فيما عرف إعلاميا باسم متسلسلة القتل(6)، حيث قامت المخابرات الإيرانية باغتيال أكثر من 80 من الكتاب والمترجمين والشعراء والنشطاء السياسيين الذين قتلوا من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل شملت حوادث السيارات والطعن وإطلاق النار وحتى الحقن بالبوتاسيوم.

خلال تلك الفترة، ورغم نبرة التصعيد الخطابي ضدها، لم تكن الجمهورية الإسلامية قد وجهت مواردها الاستخباراتية أو العسكرية ضد إسرائيل بشكل واضح بسبب انشغالها بالحرب مع العراق وتصفية خصومها الداخليين، ولكن هذا كله كان على وشك التغير منتصف التسعينيات وبأشد الطرق فتكا ودموية، حين تورطت وزارة الاستخبارات الإيرانية في التخطيط لعمليتي قصف سفارة الاحتلال وتفجير المركز اليهودي في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس عامي 1992 و1994، ما أسفر عن مقتل 85 شخصا وإصابة 150 آخرين، وذلك في رد ضمني أيضا على تعليق الحكومة الأرجنتينية لعقد للتعاون النووي مع إيران.

ظل استهداف الأصول والموارد والشخصيات الإسرائيلية والجاليات اليهودية في الخارج هو الطريقة المفضلة للاستخبارات الإيرانية، وحلفاءها في الحرس الثوري وحزب الله، لمواجهة إسرائيل على مدار قرابة عقدين، ولعل إحدى آخر تلك العمليات كانت استهداف(7) سيارة دبلوماسية إسرائيلية في الهند في محاولة لاغتيال ممثل الجيش الإسرائيلي في نيودلهي مما أدى إلى إصابة زوجته.

بالنسبة لحزب الله وإيران، تعد البلاد مثل الأرجنتين والهند أهدافا جذابة للغاية لمواجهة تل أبيب، فتأوي الأرجنتين على سبيل المثال جالية يهودية تقدر بربع مليون شخص على الأقل ما يجعلها هدفا سهلا لإلحاق الضرر بإسرائيل بعيدا عن حدودها وأحزمتها الأمنية وبأقل التكاليف، أما بالنسبة للهند فإن تحالفها العسكري مع إسرائيل حولها لمسرح مناسب للعمليات الإيرانية، فمنذ عام 1991، باعت إسرائيل الهند ما يقرب من تسعة مليارات دولار من الأسلحة، وأصبحت الهند أكبر سوق للسلاح الاسرائيلي، كما أطلقت الهند أقمار تجسس إسرائيلية للفضاء على متن صواريخ هندية كانت تهدف بالأساس للتجسس على برنامج إيران النووي.

ورغم النجاحات الكبيرة التي حققتها إيران في استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج، كان النجاح الذي حققته طهران في الاختراق الاستخباراتي المباشر للكيان العبري حتى ذلك التاريخ محدودا بشكل كبير، وفي المقابل، كانت إسرائيل هي من نجحت مرارا في تجنيد بعض الإيرانيين المنشقين للحصول على المعلومات، ولعل أبرزهم الجنرال "علي رضا أصغري" الذي لعب دورا بارزا في الشبكة التي تربط بين إيران وحزب الله وسوريا، ويعتقد أن أصغري كان مصدر المعلومات الاستخباراتية التي استخدمتها إسرائيل في عملية البستان الشهيرة لقصف المفاعل النووي السوري في دير الزور في سبتمبر/أيلول عام 2007.

لم يكن هذا هو الاختراق الإسرائيلي الأوحد لإيران على كل حال، ففي 10 أبريل/نيسان 2012 أعلنت وزارة الداخلية عن اكتشاف شبكة إسرائيلية في وسط إيران يزعم أنها تحاول جمع معلومات عن الأنشطة النووية الإيرانية، مشيرة لقدرتها على تفكيك شبكات التجسس التابعة لوكالة المخابرات المركزية والموساد فيما أسمته حرب الاستخبارات المفتوحة بين الفريقين، ولكن اختراق المؤسسات الأمنية والسياسية الإسرائيلية المنيعة ظل دوما حلما وهدفا مشروعًا بالنسبة للإيرانيين، ويبدو أن طهران حققت نجاحات في ذلك بالفعل، وكعادة سير الأمور في عالم الاستخبارات استغرق الأمر بضع سنوات من أجل الكشف عن تفاصيل مثل هذه العمليات بشكل واضح، إلا أنها حملت بضع لمحات شديدة الأهمية كاشفة عن الجهد الإيراني الذكي لمحاكاة الاختراق الإسرائيلي وعكسه، وبنفس الوسائل أيضًا.

في قلب الموساد

لطالما مثلت القضية المتعلقة بالسجين إكس(8) (x) التي أثارت الكثير من الجدل في إسرائيل وخارجها إحدى أبرز الدلائل على تطور الأذرع الاستخباراتية الإيرانية، ففي شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2010 عُثر على وكيل الموساد السابق "بن زايغر" مشنوقا في حمام زنزانته في سجن "أيالون" الحصين في الرملة، الضاحية المحتلة الواقعة شمال شرق تل أبيب.

كانت(9) الزنزانة رقم 15 التي قتل فيها بن زايغر مقسمة لقسمين، أحدهما يحتوي على سرير ومنطقة جلوس ومطبخ صغير، والآخر لغرفة استحمام صغيرة مع مرحاض، وهي مراقبة بثلاث كاميرات مراقبة ومخصصة للسجناء الأكثر خطورة، حيث سبق أن سجن فيها "يغال عمير"، قاتل رئيس الوزراء السابق اسحق رابين، وكان على الجميع أن ينتظروا لأكثر من عامين من أجل ظهور القليل من المعلومات حول مقتل أحد أكثر الجواسيس إثارة للجدل في التاريخ الإسرائيلي لمعرفة كنه المفاجأة الصارخة.

لم تكن هناك أي مؤشرات على هذه النهاية المثيرة للجدل بالنسبة لزايغر الذي نشأ في كنف أسرة يهودية محافظة جنوب شرق ملبورن، وانضم لمنظمة الشباب الصهيوني اليساري "هاشوم هاتزايير" في مقتبل حياته، قبل دراسته القانون في جامعة "موناش" بينما تداعبه أحلام الانتقال لإسرائيل، وهو الحلم الذي حققه بالفعل حين انتقل للإقامة في مستعمرة "غازيت" في الأرض المحتلة عام 1994 للمرة الأولى.

ومع مطلع الألفية الجديدة، قام الموساد الإسرائيلي بطرح إعلانات عامة للوظائف للمرة الأولى في تاريخه، ووجد "بن زايغر" في ذلك فرصة سانحة لتحقيق حلمه، وعلى الجهة المقابلة ومن أعين الإسرائيليين كان الرجال من أمثال "زايغر" الذين يحملون جوازات سفر رفيعة المستوى ويمكنهم السفر دون إثارة الشكوك بمثابة كنز إستراتيجي، إضافة لذلك فإن القانون الأسترالي يسمح للمواطنين بتغيير أسمائهم عدة مرات والتقدم بطلب للحصول على جوازات سفر جديدة، وهي الميزة التي استخدمها الأسترالي الإسرائيلي لتبديل هويته ثلاث مرات على الأقل.

اجتاز "زايغر" اختبارات الموساد بنجاح، وانخرط في برنامج تدريبي مكثف لمدة عام على التخفي وتزوير الوثائق، قبل أن يرسله الموساد لشركة تستخدمها الاستخبارات الإسرائيلية كواجهة لها في ميلانو الإيطالية عام 2005، وكانت مهمته التسلل للشركات التي تتعامل مع إيران وسوريا.

وفر العمل للضابط الإسرائيلي غطاء مثاليا للاتصال مع الإيرانيين، لكنه لم يظهر كفاءة مناسبة لهذا العمل، ما دفع الموساد لإرساله لأوروبا الشرقية، قبل أن يتم استدعاءه لتل أبيب عام 2007 ليعمل في وحدة تسوميت وهي الوحدة المسؤولة عن إدارة المصادر وتحليل المعلومات في الموساد، قبل أن يطلب الإذن للعودة لأستراليا لدراسة الماجستير والابتعاد عن هذا العالم بشكل غير مباشر.

في الأشهر اللاحقة، كانت أنشطة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي في لبنان على وجه الخصوص تتعرض لانتكاسات غير مفهومة، حيث اعتقلت السلطات البنانية أهم عميلين للموساد في البلاد وهما زياد الحمصي، واسمه الكودي في الموساد هو "الهندي" وكانت مهمته الرئيسة محاولة تزويد إسرائيل بمعلومات تمكنهم من اغتيال زعيم حزب الله "حسن نصر الله"، أما الثاني فهو "مصطفى علي عواضة"، واسمه الرمزي "زوزي"، وكان مكلفا بجمع المعلومات من حزب الله.

بالنسبة للإسرائيليين، كانت تلك أكبر نكسة استخباراتية في المنطقة منذ عقود، وقد جاءت المعلومات حول الثغرة من لبنان على الفور: وكيل للموساد كان متواجدا في ذلك الحين في أستراليا، وعلى الفور، وفي خلال عشرة أيام، اعتقلت المخابرات الإسرائيلية "زايغر" بعد أن طلب منه الموساد العودة للمقر لمناقشة التحذير الذي تم تلقيه من بيروت، لقد عرف الإسرائيليون الحقيقة أخيرًا: لقد كان زايغر جاسوسًا إيرانيًا رفيع المستوى.

لا يعرف أحد بالتحديد كيف تم تجنيد ضابط الموساد الإسرائيلي الذي أمد حزب الله وإيران بوصول غير مسبوق لمعلومات حساسة من داخل دوائر الاستخبارات الإسرائيلية، لكن ما يعرفه الجميع أن إسرائيل حاولت التكتم بشدة على تفاصيل القضية، خاصة بعد "انتحار" زايغر في محبسه الحصين أمام الكاميرات، الأمر الذي مثل لغز كبيرا رمزت إليه الصحافة الإسرائيلية لمدة طويلة باسم لغز "السجين إكس"، قبل أن تكشف تحقيقات صحفية عن تفاصيل القضية المثيرة في وقت لاحق، وتكشف معها التطور الاستخباراتي الإيراني، لكن تل أبيب ستكتشف بعد قليل أن "زايغر" لم يكن قمة هرم التجسس الإيراني بأي حال.

الأعلى رتبة في التاريخ

لا شك أن المسؤولين الإسرائيليين استدعوا للذهن حكاية السجين إكس عقب الانتكاسة الاستخباراتية التي منوا بها مؤخرا، حيث لم يكن الموساد يتوقع في أبشع كوابيسه أن تنجح إيران بشكل مباشر في تجنيد وزير إسرائيلي سابق، ولكن يبدو أن المستحيل صار حقيقة واقعة، ولا تزال إسرائيل تجهد في استيعاب صدمتها إلى اليوم على الأرجح.

كان للطبيب الإسرائيلي بالفعل تاريخ غير عادي(10)، فهو مشرع سابق، وخبير زراعي، ووزير في الحكومة، وسجين سبق الحكم عليه بتهمة تهريب 32 ألف قرص من مخدر إكستاسي في علب للحلوى مستخدما جواز سفر مزور، وأخيرا أضاف "غونين سيغيف"، وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي في منتصف التسعينات، سطرا جديدا في سجله الحافل حين أعلنت السلطات الإسرائيلية اتهامه بالتجسس لصالح إيران والعمل كوكيل للمخابرات الإيرانية.

خلال التسعينيات، كان "سيغيف" وزيرا للطاقة في حكومة إسحاق رابين التي يقودها حزب العمل، وظل في منصبه لعدة أشهر بعد اغتيال رابين في الحكومة التي قادها "شمعون بيريز" حتى انتخابات عام 1996 التي جاءت بـ "بنيامين نتنياهو" لأول مرة للسلطة. وفي أعقاب(11) ترك منصبه اتجه "سيغيف" لعالم الأعمال، ولكنه أدين بتهمة الاحتيال قبل أن يتم اعتقاله بعد اتهامه بمحاولة تهريب مخدرات خطرة من هولندا لإسرائيل.

تلقي "سيغيف" حكما بالسجن لمدة خمس سنوات فضلاً عن غرامة قدرها 27500 دولار، إلا أنه تم الإفراج عنه مبكرا بسبب حسن سلوكه ليتوجه للعمل كطبيب في نيجيريا، حيث عمل في علاج موظفي السفارة الإسرائيلية وأعضاء الجالية اليهودية، ولكنه عانى من أزمة مالية شديدة. ووفقا للتحقيق الإسرائيلي، جرى الاتصال بين "سيغيف" وبين اثنين من عملاء الاستخبارات الإيرانية لأول مرة من خلال السفارة الإيرانية في نيجيريا عام 2012، حيث عرض عليه العمل كوكيل لصالح إيران مقابل مبلغ يكفي لحل أزماته.

في بادئ الأمر، قام "سيغيف" بتزويد موظفيه الإيرانيين بمعلومات حول قطاع الطاقة الإسرائيلي، والمواقع الأمنية في إسرائيل، والهياكل، وهوية المسؤولين في المؤسسات الأمنية والسياسية هناك، لكن ابتعاده عن دائرة القرار منذ فترة طويلة جعل معلوماته على الأرجح قليلة الأهمية بشكل كبير، لذا سعى الإسرائيلي لربط موظفيه الجدد برجال أعمال إسرائيليين، التقى بعضهم به في نيجيريا، وكان بعضهم على صلة مع أذرع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حيث قام بتقديم رجال الاستخبارات الإيرانيين إليهم على أنهم رجال أعمال ومستثمرين.

في نهاية المطاف، تم القبض على "سيغيف" عند محاولته الدخول لغينيا الإستوائية بطلب من السلطات الإسرائيلية، ورغم أنه من غير المرجح أن يكون الوزير الإسرائيلي قد امتلك في أي وقت معلومات مصنفة لمشاركتها مع الإيرانيين، تشعر المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية بالارتباك حول قدرة إيران على تجنيد وكلاء على هذا المستوى من الدراية حول طريقة عمل الأمور في إسرائيل وآلية صنع القرار والشبكة المعقدة للعلاقات السياسية والتجارية، ودور ونفوذ مؤسسة الدفاع لجيش الاحتلال، حيث لا تسعى وكالات الاستخبارات الأجنبية إلى مجرد جمع المعلومات السرية، ولكن أيضا لإنشاء شبكات وفهم آلية اتخاذ القرار وتوفير تفسيرات وخلفيات أكثر دقة للأحداث.

من المرجح أن قضية "سيغيف" على وجه الخصوص ستلقى اهتماما متزايدا من وسائل الإعلام في الفترة القادمة، في حين ستظل الحرب الاستخباراتية المفتوحة بين إيران وإسرائيل مرشحة للاشتعال أكثر فأكثر، فقبل بضعة أسابيع كان نتنياهو يقف مستعرضا في قيريا مشيدا بعملية استخباراتية فريدة من نوعها نجح خلالها الموساد في تسريب وثائق حساسة، حول البرنامج النووي الإيراني، يزعم أنها كانت محورية لدعم الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الشهير، في حين تثبت قضية الوزير "سيغيف" قدرة إيران على رد رفيع المستوى من خلال إثبات قدرتها على اختراق الطبقة السياسية والأمنية المنيعة في إسرائيل، في انتظار جولة جديدة من جولات حروب الخفاء التي تدور رحاها على مدار الساعة بعيدا عن الصخب المعتاد للسياسة و حتى ضجيج الحرب والرصاص.

المصدر: الجزيرة