روىً في الفكر والسياسة
لم يكن ما حصل في عام 1989م من جهة تفكك الإتِّحاد السُّوفييتي حدثاً عابراً في سياق التاريخ المعاصر لكوكبنا؛ وفيما يخصُّ تحديد مستقبل السياسة الدَّولية؛ في العقدين الَّذين تليا ذلك؛ فقد كان عام 1989 محطَّةً تبدل فيها وجه أوروبا ومن ثمَّ وجه العالم؛ حيث وصلت الحرب الباردة الى آخرِ فصولها؛ مع بداية تفكُّك المنظومة الإشتراكيَّة؛ ففي حين كان الإتحاد السوفييتي يتفكك كان جدار برلين كرمزٍ لقسمة أوروبا ينهار وتتوحَّد معه ألمانيا وتنتقلُ معها مجمل قارة أوروبا في شرقها وغربها الى مشهدٍ جديد ومعها العالم بأسره ضمن مشروع العولمة الكبير، وضمن سيادة مفاهيم وحدانية السوق الرأسماليَّة، بقيادة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة؛ وضمن بيئة إلحاق أوروبا بالكامل بشرقها وغربها ضمن منظومة الأمن الأمريكيَّة تحت عنوان توسيع حلف النَّاتو – لقد مثَّل عام 1989 الذي بدأت فيه أنظمة الحكم الإشتراكية بالتَّداعي إبتداءً ببولندا مروراً بتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا وصولاً الى انهيار جدار برلين وبداية تفكُّك الإتحاد السوفييتي فرصةً ذهبيَّة لفرض الرؤية الإستراتيجيَّة للولايات المتَّحدة كأحدِ المداخل للسيطرة على العالم بشكلٍ كامل.
وما أنْ أفلت شمسُ الإتحاد السوفييتي السَّابق؛ حتَّى انفردت الولايات المتَّحدة بالسيطرة على مجريات السياسة الدولية؛ مِمَّا اتاح لها إدارة الأزمات الدَّولية بشكلٍ منفرد؛ إذا لم نقل إفتعالها أيضاً وتوظيفها في خدمةِ سياساتها عبر العالم؛ وكارتدادٍ لهذا التغيير الدراماتيكي الهائل وغير المتوقَّع بالسرعةِ والوتيرة التي جرى بها – إلى حدٍّ يشبه المعجزة السياسية – عملت الولايات المتحدة على تكريس إدامة إلحاق أوروبا بنظامها الأمني؛ وعملت تحديداً على تدارك وحدة ألمانيا بتعميق وتأكيد تبعية ألمانيا لمنظومتها الأمنيَّة؛ كما سارعت إلى استثمار ذلك أيضاً بالتأكيد على أنْ يشمل نظامها الأمني –اليابان- كقوَّة آسيويَّة اقتصاديَّة عملاقة؛ وكخطوة استباقيَّة في مواجهة احتمال أنْ تتطلَّع الصين الى لعب دوراً ما أو في أنْ تفكِّر في ملء الفراغ الذي تركه غياب الإتحاد السوفييتي في مضمار تقرير السياسات الدولية ضمن البيئة التي كانت تحكم مستويات تأثيره منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي وحتَّى ذلك الوقت.
بالإجمال؛ لكي نفهم السلوك الرُّوسي في عهد فلاديمير بوتين حاليَّاً ومنذ عقد من الزَّمان لا بدّ لنا من الإجابة على السؤال التالي: هل سعت الولايات المتَّحدة للهيمنة على العالم في تلك البيئة التي أشرنا إليها؟!. يُجيب على ذلك – وعلى سبيل المثال– " ماري دي لاغوس "مدير" مجلَّة الدِّفاع القومي"؛ فقد كتب في نيسان عام 1992: أنَّ هناك وثيقتان للبنتاجون تُفصِحان عن تلك الرَّغبة الأمريكيَّة وهذا التَّوجُّه بوضوح؛ ولنا هُنا أنْ نتناول أربع مقتطفات رئيسيَّة منها؛ هي التَّالية:
1: الولايات المتَّحدة هي الضَّامن الوحيد للنظام العالمي، لذلك؛ يجب أنْ نتصرَّف باستقلاليَّة في حالِ وقوع كارثة تتطلَّب ردود فعلٍ سريعة؛ أو عندما يصعب تجميع موقف عالمي موحَّد.
2: علينا التَّحرُّك لمنع تكوُّن نظام أمني في أوروبا؛ يمكنه تهديد توازن حلف شمال الأطلسي.
3: إذابة كلّ من ألمانيا واليابان، في النِّظام الجماعي الَّذي تقوده الولايات المتَّحدة.
4: إقناع جميع المنافسين المُحْتَملين بضرورة عدم التَّطفُّل للعب دور عالمي أكبر من الَّذي يلعبونه الآن بالفعل.
المصدر: لوموند الفرنسية؛ نيسان – إبريل 1992."
وعِوَضاً عن الوثائق؛ فقد أكد سلوك الولايات المتَّحدة على هذه الحقيقة بعد ذلك؛ وهكذا تصرَّفت في بيئة التفرُّد التي ولِدت في فراغ القوى المنافسة لها.
وبالعودة إلى الوثيقة في بندها الرَّابع تحديداً؛ فإنَّنا نجدُ فيها إشارة واضحة، ربما؛ الى كلٍّ من روسيا والصِّين؛ وربما بعض القوى في أوربا ومنها فرنسا وألمانيا.
على كلِّ حال هكذا فهمت "روسيا فلاديمير بوتين" السياسة الأمريكيَّة؛ وعلى ضوء ذلك تصرَّفت؛ وهكذا فهمتها حتَّى أوروبا؛ وكان ذلك إحدى دواعي محاولة أوروبا تعديل بنود معاهدة ماستريخت؛ وإحدى بواعث إنشاء الإتِّحاد الأوروبي مطلع التِّسعينات؛ وهكذا بطبيعة الحال فهمتها كل من الصين ودول أمريكا الَّلاتينيَّة؛ وعلى ضوء ذلك تصرَّف الجميع؛ باستثناء العرب بطبيعة الحال!!.
على ضوء ذلك الفهم – وعل سبيل المثال- تمَّ إنشاء مجموعة "البريكس" الَّتي تضم كلَّاً من: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا؛ والَّتي أسهمت روسيا في عهد الرئيس "ميدفيدف" خليفة بوتين بعد رئاسته الأولى في تأسيسها؛ وربما كانت أبرز الإشارات الأكثر أهميَّة بالنِّسبة لكلٍّ من روسيا والصين تحديداً من وراء "البريكس" هو القول للولايات المتَّحدة: "إنَّ اكبر الدُّول النَّامية في العالم لها خياراتها الخاصَّة بعيداً عن خيارات واشنطن" حيث ترى مجلة (إيكونوميست) البريطانيَّة؛ أنَّ مجموعة دول "البريكس" إذا ما تخلَّت عن سُدس احتياطاتها النَّقديَّة؛ فإنَّ بإمكانها تأسيس صندوق بحجم صندوق النَّقد الدَّولي.
بعد عهد "بوريس يلتسين" أخذت السياسة الخارجية الرُّوسيَّة منحىً آخر يقوم على أساس إبرام التَّفاهمات الثنائية والجماعية؛ بما يخدم المصالح الرُّوسيَّة؛ في بيئةٍ يمكن تسميتها- بالتنافس في ظل التوافق الإستراتيجي مع الولايات المتَّحدة – ولكننا نلاحظ الآن وعلى ضوء الأزمة السورية وكذلك الأزمة في أوكرانيا كما في جورجيا سابقاً؛ وعلى خلفية موقف روسيا المتميِّز فيما يخص الملف النووي الإيراني والعلاقات المُميَّزة معها ومع العديد من دول أمريكا الَّلاتينيَّة؛ وعلى ضوء سياسات إعادة بناء منظومة الأسلحة الإستراتيجيَّة؛ فضلاً عن الدُّبلوماسيَّة الرُّوسيَّة النَّشطة عبر العالم؛ والإعلان عن عقود بيع السِّلاح مع كثيرٍ من الدُّول المرشَّحة للتحالف مع السياسات الروسيَّة؛ وحتَّى الإتصال على المستوى الرَّسمي الرُّوسي ببعض الأطراف والمنظمات في المنطقة والعالم؛ نُلاحظُ من كل ذلك رغبةً روسيَّة في إعادة بناء التَّحالفات في أعقاب مرحلة إبرام التَّفاهمات التي أتاحت لروسيا العودة ولو بشكلٍ جزئي حتَّى الآن إلى المشهد الدَّولي.