غزة- حامد جاد
يخال إليك أنك تسير في منطقة ضربها الطوفان للتو فأغرق بيوتها وحول شوارعها وأزقتها إلى ممرات مائية تجوبها بقارب ترتطم جوانبه بما لفظته هذه البيوت من محتوياتها بعد أن غمرت المياه حجراتها. فهذا لوح خشبي يبدو أنه كان قاعدة لسرير طفل، وبجواره جالون بلاستيكي بداخله بضعة لترات من زيت الطهي أو الوقود، قد يكون صاحب المنزل حاول ادخارها لتشغيل مولد الكهرباء المنزلي خلال ساعات قطع الكهرباء.
تواصل جولتك على متن قارب صغير برفقة ثلاثة من أفراد الدفاع المدني وسط حالة من الذهول فرضتها هذه المشاهد التي لم تر مثلها إلا في الأفلام السينمائية فتلمح على مقربة من أحد جانبي القناة المائية فرشة غطاها الطمي وبجوارها بقايا خضروات عبارة عن أوراق ملفوف وباذنجان وبندورة، يبدو أن الطوفان لم يمهل ربة المنزل الوقت اللازم لطهيها لأفراد أسرتها فمن يترك قسراً وراءه أثاث منزله من المؤكد أنه لن يلتفت لمكونات وجبة طعام.
هكذا بدا مشهد منطقة النفق في رابع أيام المنخفض «السبت قبل الماضي»، تلتفت يمنة ويسرى بحثاً عن قاطني هذه المنطقة السكنية المنكوبة التي تعد أكثر مناطق القطاع تضررا إثر المنخفض الجوي فلا تجد منهم أحدا وكأنها منطقة مهجورة منذ زمن فجميعهم غادروا إلى مراكز الإيواء، تنظر إلى شرفات منازلهم المحاذية تماما لقاربك فتعلم أنك تبحر فوق مياه يتجاوز عمقها مترين فها هي حبال الغسيل الممتدة على طول الشرفات وما زال النصف السفلي من هذه الملابس يتدلى في المياه الراكدة الملوثة بمياه الصرف الصحي التي غمرت شرفات المنازل المنكوبة وخلفت رائحة تزكم الأنوف.
ويواصل ربان القارب الصغير جولته لينتهي بك إلى مدخل أحد الشوارع الفرعية المرتفعة عن مستوى الفيضان فتجد أمامك العشرات من أصحاب المنازل وقد تجمعوا هناك وكأنهم يحرسون منازلهم عن بعد فتقترب من أحدهم بحذر شديد خشية أن يرفض الحديث معك بعد أن فقد الأمل بما يمكن أن يقدمه الإعلام من حلول للمصيبة التي حلت به.
المواطن أكرم إبراهيم مكرم (38 عاماً) أحد اصحاب البيوت المنكوبة أبدى استعدادا ليكشف لـ “الحدث” عن تفاصيل تدفق المياه داخل منزله لارتفاع وصل لثلاثة أمتار وذلك دون أن يكترث لنكات وتهكمات من حوله من شباب وفتيان الحي الذين انتهزوا الفرصة ليعبروا عن سخريتهم من الكارثة التي ألمت به وعدم الالتفات إليهم، أحدهم صاح «قل له السياح سيأتون إلى النفق ليشاهدوا المدينة العائمة بدلاً من أن يذهبوا لإيطاليا، وآخر يعلق بسخرية: «على الصحفي الذي معك أن يصور السيارة التي صدمت القارب في الشارع المجاور، وقل له عمرك شفت سيارة تصطدم بقارب». وها هو ثالث يعبر عن غصة في قلبه بقوله: «الكل بيقبض على ظهر هالشعب والصحافيين أولهم».
يقول مكرم بعد أن ابتعد بضعة أمتار عن تجمع شباب الحي «في أول يوم من أيام المنخفض «الأربعاء الحادي عشر من الشهر الحالي» لاحظت الآليات والجرافات التابعة لبلدية غزة ولوزارة الأشغال تعمل على فتح طريق فرعي كي ينساب مجرى مياه الأمطار من شارع النفق ويصب في بركة لتجميع المياه تم حفرها في حينه وذلك بهدف عدم احتباس المياه في الشارع المذكور في حال عدم تصريف المياه لبركة الشيخ رضوان ولكن أتت مياه الأمطار بما لا تشتهي برك تجميع المياه القديمة والحديثة وبدأت بالانسياب تدريجياً وبشكل طفيف مع بداية ساعات مساء يوم الخميس إلى داخل المحال التجارية الواقعة على امتداد شارع النفق بعد أن انحسرت المياه نظرا لطبيعة الشارع الذي ينخفض مستواه تدريجياً ليصل إلى أقصى درجات الانخفاض في منتصفه ثم يرتفع تدريجيا في كلا طرفيه».
ويصف مكرم، المؤلفة أسرته من ستة أفراد، ما حدث معه بقوله: «بعد أن لاحظت يوم الجمعة اشتداد حدة المنخفض وحالة الفيضان التي عمت الشارع جراء عدم توقف مياه الأمطار وصعوبة تصريفها، حيث اختلطت بمياه الصرف الصحي، قمت بتعبئة بضعة أكياس من الرمال ووضعتها على مدخل منزلي المكون من طابقين حيث لم أتوقع أن يرتفع منسوب المياه لأكثر من نصف متر في أسوأ الأحوال ولكن ماحدث لم يكن في الحسبان ولم نحلم به في أسوأ كوابيسنا».
وتابع ظننت من خلال فرق الطوارئ التي وصلت إلينا قبل أن يتم إخلاء المنطقة كلياً من سكانها أن الأمر سينتهي على حالة تجميع المياه في شارعنا حيث لم يكن هناك أحد من السكان بامكانه الخروج من منزله لأن المياه غطت الشارع كليا وارتفعت إلى جانبي الرصيف لأكثر من أربعين سنتيميترا فتوقعنا أن لا يزيد الأمر عن ذلك، وفي هذه الأثناء كانت فرق الطوارئ تغيث السكان في المنطقة وتقدم لهم احتياجاتهم من الطعام والشراب والدواء لحين انتهاء المنخفض ومن ثم يتم تصريف مياه الأمطار وإنهاء هذه الأزمة، لذا لم يغادر معظم سكان شارع النفق بيوتهم خلال اليوم الأول والثاني من أيام المنخفض «الأربعاء والخميس».
فبتنا ليلة الجمعة السبت في منزلنا إلى أن استيقظت لأداء صلاة الفجر فسمعت أصواتاً تصدر من الطابق السفلي أشبه بأصوات فقاعات المياه وبمجرد أن نزلت الدرجات الثلاث الأولى المؤدية للطابق الأرضي شاهدت المياه وقد وصلت إلى مسافة تزيد عن المتر ونصف المتر من الطابق الأرضي، وأصبح ارتفاع المياه على بعد أقل من شبر من صندوق تجميع تمديدات كهرباء المنزل «الطابلون» فاتصلت على الفور بالدفاع المدني وشركة الكهرباء وطلبت منهم الإبقاء على فصل الكهرباء وقطعها كليا عن الحي وشرحت لهم الوضع ثم صعدت إلى الطابق الثاني وأصبحت أحسب ارتفاع المياه داخل بيتي من خلال المسافة المحدودة من سور المنزل التي لم تصلها بعد المياه، وكانت المسافة غير المغمورة بالمياه في حينها عبارة عن خمسة أطواف من الطوب مايعني 100 سنتمتر من أصل ارتفاع السور البالغ ثلاثة أمتار وفي ظهيرة اليوم نفسه لم يتبق سوى مدماكين ما يعني 40 سنتمترا إلى أن اختفى السور تماما مع ساعة العصر، وكانت المياه قد غطت كليا الطابق الأرضي من منزلي وبعدها بساعتين قررت الخروج من المنزل وكنت دون أن أعلم من القلائل الذين تبقوا داخل بيوتهم في ذلك اليوم حيث انتقلنا بقارب اجتاز سور المنزل بعد أن ارتفعت المياه عن السور لأكثر من 30 سنتمترا وخرجنا من شباك منزلنا بعد أن قمت بقطع الحماية الحديدية وانتقلت للإقامة في منزل شقيقتي إلى حين شفط المياه وعودتي للمنزل، موضحاً أن خسارته تقدر بعشرات آلاف الدولارات واشتملت على معدات لورشة خراطة يمتلكها وسيارة وتجهيزات مختلفة تتعلق بطبيعة عمله.
ولم تنج منطقة من مناطق قطاع غزة من الأضرار التي ألحقها المنخفض بالمناطق السكنية والزارعية فمنطقة حي الجنينة في مدينة رفح جنوب القطاع تحولت إلى مستنقعات مائية مترامية الأطراف خاصة وأنها تعد واحدة من أبرز المناطق المنخفضة في جنوب قطاع غزة.
ويصف المواطن اسماعيل جودة الأضرار التي ألحقتها المياه المتدفقة التي غطت المنازل والأراضي الزراعية لمنطقة الجنينة بالكارثية، وأن الأضرار التي خلفها منخفض أليكسا كانت بمثابة نكبة ثالثة حلت بمواطني قطاع غزة، لافتاً إلى أن غالبية سكان المنطقة أخلوا منازلهم في اليوم الثاني من المنخفض مخلفين وراءهم ممتلكاتهم التي غمرتها المياه كلياً، فيما انشغل المزارعون من مربي الماشية والأغنام في محافظتي رفح وخانيونس جنوب القطاع منذ اليوم الأول بإخلاء حظائر الأغنام والماشية جراء المياه التي أتت عليها بالكامل.
وأشار جودة إلى أن منزله المجاور لمزرعته غمرته المياه ولم يعد قادراً على توجيه جهده باتجاه منزله ومزرعته في آن واحد حيث استطاع بالكاد برفقة أبنائه إخلاء المنزل بعد أن وضع الفراش على طاولة لديه واستعان بما هو متوفر حول المنزل من حجارة وضعها في منتصف صالة المنزل كي يضع فوقها ما تبقى من أثاث منزلي ومن ثم حاول عبثاً مع أسرته وضع سواتر ترابية حول أرضه المزروعة بالخضار إلا أن تلك السواتر لم تصمد أمام كثافة الأمطار التي جرفت مزروعاته.
وانتقد جودة أداء البلديات والدفاع المدني ووزارة الأشغال بسبب افتقارها للآليات والمعدات اللازمة لإنقاذ منازل ومزارع المواطنيين، حيث لم تستطع تلك المؤسسات القيام بدورها والتخفيف من حدة الأضرار التي لحقت بالمواطنين معتبرا أنه كان من المفترض أن تتخذ المؤسسات الاحتياطات اللازمة لمواجهة مثل هذه الكوارث الطبيعية.
خسائر تقديرية
سارع أكثر من مسؤول في الحكومة المقالة التي تديرها حركة حماس في غزة ومنذ ثاني أيام المنخفض إلى الإعلان عن حجم الخسائر وطبيعة الأضرار التي لحقت بالقطاعات المختلفة فوزير الأشغال العامة والإسكان لدى الحكومة بغزة يوسف الغريز أعلن أن 3300 وحدة سكنية وسبعة آلاف أسرة تضررت، وأجبرت أربعة آلاف أسرة منها على ترك منازلها، وأنه تم إيواء 900 أسرة في 19 مركز إيواء مؤقت موزعة على جميع محافظات القطاع، فيما توجهت باقي الأسر للأقارب والأصدقاء. وأن مجمل الخسائر الناجمة عن المنخفض بلغت 64 مليون دولار.
واتهم الغريز الاحتلال الإسرائيلي بالتسبب بمضاعفة الخسائر نتيجة لقيام سلطات الاحتلال بفتح السدود المائية على الحدود مع غزة ما أدى إلى غرق عدة مناطق من بينها وادي السلقا جنوب القطاع ووادي غزة وسط القطاع ووادي بيت حانون شمال القطاع. إضافة إلى أنه تعذر الوصول لبعض المستشفيات نتيجة غرق الطرقات المؤدية إليها.
وأوضح أن الأحياء السكنية بجوار البرك المائية غرقت بالكامل، كبركة أبو راشد شمال غزة، وبركة الصفطاوي وبركة الشيخ رضوان، وبركة حي الأمل بخانيونس وبركة حي الجنينة برفح والعديد من برك تجمع المياه.
أما أضرار البنية التحتية فتقدر بـ 12 مليون دولار وتتمثل في شبكات الطرق والمياه والصرف الصحي والكهرباء والاتصالات، فيما قدرت أضرار القطاع الصناعي والتجاري بنحو ألف منشأة بقيمة ثلاثة ملايين دولار، وبلغت خسائر القطاع الزراعي نحو سبعة ملايين دولار نتيجة تضرر المزارع والدواجن والثروة الحيوانية والإنتاج النباتي والثروة السمكية، وبلغت خسائر قطاع النقل والمواصلات بنحو مليوني دولار، معتبرا أن هذه الأرقام تعد تقديرات أولية مرشحة للزيادة.
وفي سياق متصل بخسائر القطاع الزراعي أكدت الإغاثة الزراعية أن المنخفض ألحق أضرارا جسيمة بالقطاع الزراعي وبنيته التحتية ما سيؤثر على قدرة المزارعين على استئناف عملهم الزراعي على المدى القصير والمتوسط والطويل.
وأوضحت أن قيام سلطات الاحتلال بفتح السدود أدى إلى غرق آلاف الدونمات في مواقع وادي السلقا والفخاري والشوكة الشمالية، حيث لوحظ ارتفاع منسوب المياه إلى أكثر من نصف متر في هذه الأراضي ما أدى إلى تلف محاصيل الخضروات ونفوق آلاف الطيور والماشية.
وأكدت الإغاثة الزراعية أيضاً أن هناك ما يزيد على 1000 دفيئة زراعية تأثرت بشكل كلي وجزئي نتيجة الرياح الشديدة وتسببت بخسائر فادحة في الدفيئات الزراعية ومحاصيلها بسبب تطاير النايلون، وأن تطاير قوس واحد من الدفيئة يزيد من احتمالية حدوث ضرر كبير في الدفيئة وتلف المحاصيل الزراعية، كما أثر سقوط الثلج بشكل كثيف على محاصيل الخضروات من الزراعات المكشوفة مثل ( الكوسا – الباذنجان – البطاطس – والمحاصيل الورقية الأخرى) ما تسبب بتدمير المحاصيل بشكل كامل.
وقد لحق بقطاع الدواجن خسائر كبيرة، حيث أدت الموجة إلى نفوق أكثر من 120 ألف صوص بسبب العاصفة نتيجة المنخفض الجوي الذي تبعه سلسلة من الأزمات المتتالية كانقطاع التيار الكهربائي ونقص في الغاز الطبيعي الذي يستخدم في التدفئة والوقود المستخدم في تشغيل المولدات وتكبد المزارعون خسائر فادحة متتالية.
وكذلك أدى غرق العديد من المناطق إلى نفوق ما يزيد عن 200 رأس أغنام، وانجراف أكثر من 50 خلية نحل بفعل السيول والرياح، فيما أدى ارتفاع الموج إلى ما يزيد عن 5 أمتار إلى انجراف شبكات الصيد وأدوات الصيادين وحدوث أضرار جزئية في المراكب، كما أدى انخفاض درجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي إلى نفوق الأسماك من مشاريع الاستزراع السمكي.
تعويضات المتضررين
بادرت دولة قطر في اليوم الثاني من أيام المنخفض بتقديم منحة بقيمة خمسة ملايين دولار لإغاثة المناطق المنكوبة في قطاع غزة إثر المنخفض الجوي، إضافة إلى تقديمها مبلغ عشرة ملايين دولار لتمويل شراء الوقود اللازم لتشغيل محطة كهرباء غزة المتوقفة منذ الأول من تشرين الثاني الماضي.
وكشف أحمد أبو راس مدير المكتب الفني للجنة القطرية لإعادة الإعمار في حديث لـ “الحدث” النقاب عن أن اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة مولت بالتعاون مع اللجنة المركزية العليا للطوارئ مساعدات نقدية وعينية لإغاثة المناطق المنكوبة بلغت حتى مطلع الأسبوع الحالي مليوني دولار، وذلك من إجمالي قيمة المنحة متوقعا مع نهاية الأسبوع الحالي أن يتم استكمال عملية صرف باقي المنحة وتعويض المتضررين حتى نهاية الأسبوع الحالي.
وبين أبو راس أن تلك المساعدات شملت تغطية قيمة كافة مستلزمات الإغاثة العاجلة لمراكز إيواء الأسر المنكوبة، وكذلك لمنازل هذه الأسر، حيث تم اعتبارا من مطلع الأسبوع الحالي صرف مساعدات نقدية عبر مكاتب البريد لكل أسرة متضررة وذلك حسب تقديرات الأضرار التي حلت بها، منوهاً إلى أنه مع نهاية هذا الأسبوع وحسب ما أعلنت وزارة اشغال غزة ستكون كافة الأسر قد عادت لمنازلها.
ولفت أبو راس إلى أن اللجنة تعمل حالياً على توفير مخزون من الوقود كما تعتزم اللجنة توفير عدد من قوارب الإنقاذ لطواقم الدفاع المدني لتزيد من فعالية جهودها بما يكفل تقديم المساعدة العاجلة حال التعرض لأي أضرار قد تقع مستقبلا بفعل سوء الأحوال الجوية أو تعرض القطاع لمنخفض جوي آخر