التسميات والاصطلاحات غير مهمَّة إزاء المضامين؛ فالمهم هو حقيقة وواقع المُسميات وما ستفرضه من سياقات ووقائع على الأرض.. وسواء أكانت الأفكار الأمريكيَّة للتسوية تحمل أسماءً مُفخَّمة وذات دلالات، كصفقة القرن، أو تحملُ أسماءً أخرى أكثر تواضعاً فهي ذات الأفكار التي طالما حاولت الإدارات الأمريكيَّة المتعاقبة تسويقها وتوظيفها على قاعدة – وضمن - المفاهيم الأساسيَّة الرئويَّة الإسرائيليَّة للتسوية، والتي تُراوِحُ بين مفهوم التسوية الإقليميَّة وبما يضمن شرعية التوسع الإقليمي الإسرائيلي الذي يعني ضم المناطق خالية من السكان في الضفة الغربية، وبين إبقاء السيطرة على الضفة الغربية دون ضم السُّكان، في إطار صيغ التقاسم الوظيفي، التي تتطلب الفصل بين حقيقة وواقع السيطرة الأُحاديَّة المطلقة على الأرض ومواردها، وبين صيغ الإدارة المشتركة للسكَّان عبر سلطة فلسطينيَّة أو أي سلطة عربيَّة أخرى.
هنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ إسرائيل وحتَّى الآن لم تعترف بمفهوم احتلالها للأرض في الضفة الغربيَّة، وإن كانت تعترف بوجود سكَّان على هذه الأرض لهم حقوق شرعيَّة في إدارة ذاتهم وفق صيغ الحكم الذَّاتي المعروفة، ومفهومها للخط الأخضر – حدود الخامس من حزيران 67 – يختلف تماماً عن أي مفهوم لدى الآخرين ومن ضمنهم المؤسسات الدوليَّة؛ فهذه الحدود وفق رؤيتها هي حدود هدنة عام 49 وقد انهارت بفعل حرب حزيران 67 وما فرضته تلك الحرب من حقائق إقليميَّة وجيوسياسيَّة وديمغرافيَّة جديدة.
في مسار التسوية المُتعرِّج والتراكمي ظاهريَّاً اعترفت حكومة بيغن "الليكود" ولدى توقيع اتفاقات كامب ديفد مع مصر بحقوق شرعية للفلسطينيين – دون أل التعريف – وفي تفاهمات أوسلو اعترفت حكومة رابين وبيرس " العمل " بحقوق سياسيَّة للفلسطينيين – وكذلك دون أل التَّعريف – كما هو الحال تماماً مع الصيغة الإنجليزيَّة لقرار 242 الذي يَدعو إسرائيل للانسحاب من " أراضٍ احتُلَّت عام 67 " دون أل التعريف.. وعلى طول ذلك المسار انشغل العرب والفلسطينيُّون بالمصطلحات والتعبيرات اللغويَّة، فيما انشغلت إسرائيل والولايات المتحدة بتكريس الحقائق والوقائع على الأرض كمدخل لنيل الشرعيَّة، وكمصدر لتكريس شرعيَّة الوقائع المُسْتَحْدَثة..
وما زالت المؤسسة الأكاديميَّة والنَّخْبَوِيَّة الإسرائيليَّة منشغلة بعمق بالتحليل التاريخي والمنهجي لجيل الرُّوَّاد وأفكارهم وأفعالهم المُؤسسة – جيل الهجرة الصهيونيَّة الثانية (1905 - 1913 ) والثالثة ( 1914 - 1920 ) وصولاً إلى عام 48 – وما لذلك من صلة موضوعيَّة ومنهجيَّة بالماضي والحاضر والمستقبل لجهة تخطيط السياسات؛ فيما تَعْتَبِرُ بعض النُّخَبُ الفلسطينيَّة والعربية ذلك الانشغال بالسياق التاريخي والمنهجي ترفاً وعناءً لا طائل من ورائه، وذلك على قاعدة الاعتقاد بحقائق جديدة – موهومة - في السياسات الدولية والإقليميَّة، تكرَّست منذ ذلك الحين وحتى الآن، وعلى قاعدة الاعتقاد بمزايا ديناميكيَّة وبرغماتيَّة سياسات الولايات المتحدة الأمريكيَّة.
وعلى هذه القاعدة وبرغم الموقف الفلسطيني الرَّسمي من صفقة القرن ورفض التَّعاطي معها؛ ثمَّة من بين النُّخب الفلسطينيَّة من يقول: لا بأس من فحص الأمر، ولا بأس من التَّأنّي في التَّعاطي مع الأفكار الأمريكيَّة الإبداعيَّة الجديدة، وما المانع من التجاوب مع المزايا الإيجابيَّة فيها إنْ وُجِدَتْ !!. في التَّحليل المنهجي والنهائي، ثمَّة أساطير تأسيسيَّة مُحرِكة وملامح مشتركة بين المبادىء المحرِّكة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكيَّة وبين إسرائيل، وثمة قواسم ثقافية ومنهجية عديدة مشتركة لدى ما يُصْطَلح عليه بجيل الرُّواد في كلتا الحالتين.
لقد قامت الدولة الفدراليَّة الأمريكيَّة على قاعدة انتزاع الأرض عبر العمل والقوة، وآمنت السياسة الأمريكيَّة ومنذ البداية وما زالت تؤمن بالقوَّة وبحقائق القوَّة.. قوَّة السياسة، وقوَّة الاقتصاد، وما تفرضه القوَّة العسكريَّة من حقائق ووقائع، ما يفرضه كل ذلك من هيمنة وإدامة الهيمنة وفرض شروط التسويات لصالح مصادر القوَّة دون أي اعتبارات أخلاقيَّة أو قانونيَّة، ودون عناية بشرعية الحقوق الأصليَّة، وكذلك دون اعتبار لأيٍّ من مبادىء الدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان والمساواة الإنسانيَّة؛ فكل هذه الشّعارات تُسْتَخْدَم كعناوين وكغطاء لتسويغ احتكار تعريف الشرعيات والحقوق وفق مصالح وضرورات القوى المهيمنة على الاقتصاد العالمي وعلى السياسة الدوليَّة وفي مقدِّمتها الولايات المتحدة الأمريكيَّة. في كتابه "الأساطير المؤسِّسَة لإسرائيل.. القوميَّة، الاشتراكيَّة، وقيام الدَّولة اليهوديَّة " يُسْهبُ " زئيف ستيرنهل " الأكاديمي والمؤرِّخ في تاريخ الحركات القوميَّة والاشتراكيَّة الأوروبيَّة وفي تاريخ حركة العمل الاشتراكي العبري في فلسطين "الكيبوتس والييشوف" وكذلك الهستدروت بمؤسساتها المختلفة والتي مثَّلت النواة والأساس لقيام إسرائيل، يُسْهِبُ ستيرنهل، في شرح أفكار ومنهج المؤسِّسين وروَّاد ومنظِّري الحركة الصهيونيَّة من جيل الهجرات اليهوديَّة الثانية والثالثة وحتى قيام دولة إسرائيل عام 48 وكيف ما زال كل ذلك يمثل قاعدة انطلاقٍ مشتركة وزوايا جامعة وجملة من المعايير القياسيَّة الأساسيَّة لمختلف تيَّارات الحركة الصهيونيَّة من يمين ويسار ووسط منذ عام 1920 – تاريخ تأسيس الهستدروت بمختلف تشكيلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية - ولمختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي منذ ذلك التاريخ وحتَّى الآن..
يشرح ستيرنهل كيف حوَّل " بيرل كاتسنلسن " أحد أهم مُنظِّري الاشتراكيَّة الصهيونيَّة والهستدروت، ومؤسِّس ومحرر صحيفة دافار لسنواتٍ طويلة وآخرين غيره - المفاهيم الاشتراكيَّة من مفاهيم ديمقراطيَّة تستهدف تحقيق المساواة الاجتماعيَّة إلى منهج اشتراكيَّة قوميَّة شوفينيَّة مهمَّتها انتزاع الأرض عبر احتكار العمل وعبر وسائل القوَّة فقط بعيداً عن أيِّ معايير تتصل بمبادىء القوانين الدولية أو بمبادىء المساواة الاجتماعيَّة حتَّى داخل المجتمع الاستيطاني المتشكِّل بفعل الهجرات المتعاقبة في فلسطين بشقَّيه المَدِينيِّ والرِّيفيّْ.. وكيف أخرج وكرَّس دافيد بن غوريون ذلك كحقائق على الأرض.. يصل ستيرنهل إلى خاتمة الكتاب ليقول:" لعب التاريخ والدِّين ذات الدور في الصهيونيَّة كما هو الحال في الحركات القوميَّة الأخرى في القرن التاسع عشر.
في أوروبا الغربيَّة، كانت أهميَّة العناصر ضد –الليبراليَّة ضخمة، وفي وسط أوروبا كانت حاسمة.. في الحقيقة، ومنذ البداية، فإنَّ شعور الإلحاح أعطى الصَّهاينة الأوائل قناعة عميقة بأنَّ مهمة إعادة انتزاع الأرض لها أساس أخلاقي صلب؛ حجَّة الحق التاريخي لليهود في الأرض لم تكن سوى مسألة سياسيَّة وترويج إعلامي، ونظراً للوضع المأساوي لليهود بداية القرن؛ كان استخدام هذه الحجَّة مُبَرَّراَ من كل الزَّوايا، تمَّت استثارة الحقوق التاريخيَّة لتخدم حاجة البحث عن مأوى.. بعد حرب الأيَّام السِّتة تغيَّرت الظُّروف، واستمرَّت بعض أنواع الجدل رغم أنَّها لم تعد مُلزِمة.
إن عملية التطبيع التي سيطرت على منتصف الستينات، والتطور الاقتصادي السريع، والإحساس بالأمن بعد حرب الأيام الستة، طوت الجدل حول خطر الاختفاء. على ذلك، فإن توكيد الحقوق التاريخية في يهودا والسَّامرة حصل على الدور الذي كان قائما ً في أوروبا دائما ً : تبرير المطالب الإقليمية. وحتى الجدل المتركز على الأمن لم يكن يخلو من الرغبة في استغلال المناسبة وتوسيع حدود الدولة، الجدل الوحيد الذي حصل حقيقة في الحركة العالمية حول مستقبل الأراضي حتى وقت قريب حُصر في احتمالين: "التسوية الإقليمية " التي تتطلب ضم ّ مناطق خالية من السكان تقريبا ً، و " التسوية الوظيفية " التي تعني إبقاء السيطرة على الضفة الغربية دون ضم السكان . كلا المفهومين يمثلان قومية الاستيلاء على الأرض التي منحها المؤسسون لجيل 1948.. لقد اعتبر تشيف رابي كوك ( 1865 – 1935) وهو شخصيَّة بارزة في الصهيونيَّة الدينيَّة، أنَّ انتزاع الحركة العماليَّة لأرض الأجداد عملاً مقدَّساً. وبصفته من أشد المُعجبين بالرُّواد؛ فقد شجَّع اليهود المتدينين على بناء الكيبوتسات في ذلك الوقت..
إنَّ التراث الروحي للمؤسسين – من حركة العمل - آرون ديفد غوردون، وتابنكن، وبيرل كاتسنلسن، وحتَّى بن غوريون، وليفي أشكول، وغولدا مئير، وحتَّى ديَّان ويغيئال ألون – هما من مواليد فلسطين ويرمزان إلى اليهودي الجديد – لم يكن لهما مرجعيَّة غير علمانيَّة السَّابقين، الذين كانوا نتاجاً لقراهُم اليهوديَّة الصَّغيرة في بولندا وروسيا، ويتكتَّلون حول بعضهم بعضاً في الكُنُس والمدارس التوراتيَّة..
في إطار هذه الوحدة الثقافية، وفي سياق الصراع المشترك من أجل الاستقلال تم صياغة التحالف الطبيعي بين كل الحركات الصهيونية. لقد أظهرت الحركة القومية الدينية والحركات العلمانية الصهيونية الثلاث – العامَّة، والتصحيحيَّة، والعمَّاليَّة - ذات التصميم في مصارعة الاستيعاب وفقدان الهوية التقليديَّة اليهوديَّة. في ذلك الوقت – وحتَّى الآن – أرادت كل الفروع أكبر دولة ممكنة، واختلفت فقط في نظرتها حول تحقيقها.. إنَّ هذا الإجماع سمح للجميع – عدا قلَّة من الشَّواذ – باعتبار حرب الأيَّام السِّتة استمراراً ونتيجةً لحرب الاستقلال، حيث ولأسباب ظرفيَّة لم يكن الجيش الإسرائيلي قادراً على الوصول إلى نهر الأردن وغزَّة الأرض القلب للتوراة.
إنَّ غوش أيمونيم التي تأسست رسمياً بعد حرب عام 67، والتي تجمع التطرف الديني والقومي في متابعة أهدافها لاسترجاع الضفة الغربية من خلال الكولونياليَّة، على حق هي ومن يدعمها من غير المتدينين، في الزَّعم بأنَّ المستوطنات في يهودا والسَّامرة أو في قلب الخليل، هي الاستمرار الطبيعي والمنطقي والشرعي للنوايا الصهيونيَّة الأصليَّة. إنَّها على حق أيضاً في الادِّعاءِ بأنَّ هذه الحركة هي أكثر قرباً من روح المؤسسين – من الصهيونيَّة الليبراليَّة الجديدة – التي لا تعترف بأنَّها صهيونيَّة إطلاقاً". إلى هنا كان كلام زئيف ستيرنهل.. في المقابل فإنَّ لنا أنْ نقتبس بعضاً من رأيٍ آخر يقدمه البروفيسور يسرائيل شاحاك في كتابه "الديانة اليهودية وتاريخ اليهود، وطأة 3 آلاف عام" ويسرئيل شاحاك بالمناسبة كان حتَّى نهاية الخمسينيَّات ضمن الدَّائرة المقرَّبة من بن غوروين، فنجده يقول بخصوص تأثير الآيديولوجيا في تحديد سياسات إسرائيل تجاه التسويات مع العرب والفلسطينيين: "وكانت إسرائيل منذ عام 1967 كلَّما أصبحت أكثر يهوديَّة؛ كلَّما تأثَّرتْ بالمصالح الإمبرياليَّة المُبَلْوَرة دون انفعالات.
وهذا التأثير الآيديولوجي لا يدركه عادةً الخبراء الأجانب، الذين يميلون إلى تجاهل تأثير الديانة اليهوديَّة على سياسات إسرائيل، أو إلى التقليل من أهميَّة هذا العامل؛ وهذا يفسِّر لماذا كانت تكهُّناتُهم – تجاه مسار السياسات الإسرائيليَّة - تكهُّنات غير صحيحة ".
بالإجمال: لا شك أنَّ صفقة القرن تأتي ضمن ذلك السياق التاريخي المنهجي المتصل، وتأتي ضمن الصيغ الكلاسيكيَّة للحلول والتسويات الإقليميَّة والوظيفيَّة. وربَّما إنَّ إدراج المجهود التبشيري الأمريكي العتيد بعملية سلام دَؤوبة وجديدة تحت عنوان " صفقة القرن " له دلالة منهجيَّة واحدة فقط، وهي: مرور قرن كامل تقريباً على قيام دولة إسرائيل التي بدأ وجودها تنظيميَّاً وعمليَّاً مع تأسيس الهستدورت ومؤسَّساته نهاية عام 1920 في ظل بواكير ورعاية حكومة الانتداب الإنجليزي على فلسطين حتى الإعلان عن تدشين قيامها رسمياً عام 48.
وهذه الصفقة لا شك أنَّ لها أساس موضوعي أيضاً بفعل استجابة وتعاون العرب والأطراف الإقليميَّة، كما أنَّ لها أقدام ستسيرُ عليها حتَّى نهاية الشوط الجديد من أشواط استكمال مشروع الهيمنة والتوسُّع والضَّم والتطبيع، وأنَّها تبدو - وبفعل سحر الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة - حيَّةٌ تسعى !!.