لا أحد يدري ما المنطق وراء الاجراءات التي قررت فيها حركة فتح واتخذتها الحكومة ضد موظفي الشرعية في قطاع غزة. لكن الجميع متفقون أن ما يجري مخالفة دستورية وتعاقدية كبيرة تتخطى حدود المنطق لتضرب أسس وواجبات الحكم ومسؤولياته تجاه كل الشعب وفي كل الأوقات. ويشكل صمت الحكومة في غالب الأحيان وهجومها غير أننا لم نسمع من أحد حول الموضوع ولم نسمع من الحكومة كلمة واحدة وهذا دليل استخفاف وازدراء من نوع جديد وخطير للمجتمع ومشاعر الناس. هذه العقوبات تعدّي على كرامة الناس وظلم يصعب وصفه بالكلمات وهي صفحة يجب أن تنطوي إلى غير رجعة؛ لكنها على بشاعتها ليست أساس المشكلة، إنما أحد تجليات الأزمة العميقة التي يعاني منها النظام السياسي الفلسطيني بموالاته ومعارضته؛ أزمة يتفوق فيها السجال وتتراجع فيها قيمة الإنسان ومفهوم المواطنة ويتهرب فيها الجميع من السؤال المصيري المطروح: فلسطين إلى أين.
معاناة موظفي الشرعية في القطاع لا تلخص الأزمة في القطاع؛ بل إن في هذا الاختزال إجحاف للواقع ورياء كبير آن التطرق له، ناهيك عن حقيقة أن أزمة اقتطاع الرواتب وتقليص نفقات الحكومة الشرعية وغيرها من الخطوات العقابية بدأت قبل حوالي عام من الآن وتفاقمت في الأشهر القليلة الماضية بشكل كبير. الواقع المرير هو أن هناك اثنين مليون فلسطيني يكابدون صنوفاً من العذاب والإهانة والاستحقار منذ أحد عشر عاماً هي عمر الانقلاب، نتيجة سياسات وتوجهات حركة حماس التي اسمتهم "شعب غزة" في ٢٠٠٧ وأمعنت في استغلال معاناتهم منذ ذلك الحين حتى رسخت صورة نمطية من البؤس والفقر والشحدة عن الفلسطيني في غزة بمساعدة آلة دعاية وإعلام إقليمية ومتشابكة مهولة وممولة بكرم متناهي. هذا النهج عار لن تمحيه السنوات وقد استمر بسبب السلبية وقلة التفاعل الذي يصل حد التواطؤ من أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقواه "الحية". كانت الأعذار تتفاوت من "لن نهاجم من يقاوم ويدفع الأثمان" إلى "ليس هناك ما يؤكد الادعاءات حول تصرفات واعتداءات وأدوات حماس". أعذار تريد للشمس أن تغطى بغربال وأطروحات ارتضى أصحابها أن يحبوا غزة وأهلنا في غزة لأنهم يموتون بالجملة ويضحون بالنيابة عنا وعن كرامتنا بالجملة دون أم يتمتعوا بأبسط مقومات الحياة والكرامة وأولها الخيار.
القيادة الفلسطينية وخلال كل أعوام العار الماضية هذه لم تمتلك رؤية واضحة حول معالجة آثار الانقلاب وإنهائه والتكفير عن الخسارة التي أدت إلى تقسيم الوطن سياسياً واجتماعياً. ولا يجب إعفاء المجتمع المدني من المسؤولية في هذا السياق فقد كان إما منافقا أو متواطئا أو صامتا رغم وجود حالات فردية مشرفة بمبدأيتها، لكنها لم تقوى على التغلب على الرياء السياسي والمصالح المتشابكة.
المفارقة أنه بينما كانت حركة حماس تجبي الأموال وتبيع الوقود لأمراء مولدات الكهرباء وتحصّل فواتير باهضة من المواطنين مقابل أربع ساعات كهرباء في اليوم على أكبر تقدير (فواتير تصل لمئة وسبعون شيكل شهرياً!) وتبيع المرضى والجرحى الدواء الذي ترسله الحكومة وغيرها للقطاع الصحي وتبيع السلات الغذائية القادمة على شكل مساعدات بدل أن يتلقاها المحتاجون وغيرها من الإجراءات، تمكنت الحكومة وفتح من إعفاء حماس من أي مساءلة بهذا الخصوص وفجرت أزمة أصبحت هي بطلها الأوحد. تفجرت أزمة ما كانت لتكون لولا تبني هذه العقوبات والإمعان في إزدراء الرأي العام والمتضررين وعدم التواصل معهم بل اللجوء للشعارات الرنانة والمزايدة على آلاف الناس الذين كانوا وما زالوا عماد الشرعية في قطاع غزة ومن دفع أثمانا باهظة وبشكل متكرر للتمسك بهذا الدور الوطني والواعي. أي عبقرية هذه التي أوصلت النظام السياسي الفلسطيني إلى هذه الهشاشة وانعدام الحكمة؟!
وبالعودة إلى الأزمة الأخطر وهي أين نحن ذاهبون في ظل ما تحضره الإدارة الأمريكية الحالية مع حلفائها في المنطقة لتصفية القضية الفلسطينية والقضاء بشكل ممنهج على الحقوق الوطنية واحدة تلو الأخرى، يتضح أن المنظومة السياسية برمتها ملهية في التفاصيل الداخلية على أهميتها وأن المعارضة السياسية إن جاز التعبير تتمتع بقدرة عالية على التنظيم والتنسيق في هذا الخصوص بينما تسقط في امتحان الأفكار الأشمل فتقدم عناوين كبرى وشعارات أكبر لا تتعدى في تأثيرها أو جديتها أثر فقاعات الصابون. هذا ينطبق على من هم في الموالاة والمعارضة في إطار منظمة التحرير. أما حركة حماس، فهي ماهرة في استغلال ما يجري من مماحكات وصدامات وإفلاس سياسي حتى تؤجج المشاعر من ناحية وتصل إلى مبتغاها في الاعتراف الدولي والبقاء في الحكم ولو عن طريق الانفصال، مدركة أن خطة ترامب تفرغ القضية من سياقها السياسي وتركز على الموضوع الاقتصادي ولا مانع لها أن تقتصر الدويلة المسخ على غزة وجزء من سيناء المصرية حتى تتمكن إسرائيل من ابتلاع الضفة الغربية مرة واحدة وإلى الأبد وبموافقة عربية.
حماس ستبقى في غزة حتى آخر غزاوي ولن تبرح مربع السيطرة الا إذا توقفت الفصائل والمؤسسات عن الرياء ورفضت التعامل مع كل نتائج الانقلاب من شرطة ونيابة وضريبة وغيرها من مصادر الثروة. وفتح ومعها فصائل منظمة التحرير لن يستطيعوا تصحيح فشلهم التاريخي في فقدان غزة إلا إذا كان لديهم برنامجاً واضحاً يحترم الناس ويعمل معهم لإنهاء هذه الحالة الظالمة والمظلمة بدل التعامل مع مليوني فلسطيني باعتبارهم أدوات ضغط وكأنها لا تدرك أن ازدياد البؤس في غزة لا يخدم إلا الانقسام ولا يدفع إلا باتجاه الانفصال وهو ما يريده ترامب وحلفائه ويسعون لتحقيقه.
الإجابة على سؤال "إلى أين" يتطلب تقييماً واقعياً وصادقاً ومسؤولاً لأين نحن الآن ويتطلب أيضاً مسؤولية عالية في رسم خطوط "إلى أين" تقوم على الشفافية مع الناس وإدراك ألّا حصانة أو حماية للكينونة السياسية الفلسطينية أقوى من حصانة الشعب الذي كفر اليوم بكل شيء كان يوماً جميلاً أو مقنعاً. وحتى لا تكون الإجابة على سؤال "إلى أين" هي "النهاية"، مطلوب حكمة ومعالجة تحاكي في سرعتها وخطواتها الدراماتيكية والجوهرية نمط العصر السريع الذي نعيش فيه ومتطلبات المرحلة التي نقدم عليها ونحن هائمين. لا يعقل أن تنهمك القيادة بتشخيص المؤامرة وعيش دور الضحية والإصرار على عدم الاستماع لصدى صوتها بدل أن تبحث عن الأهم وهو الفعل السياسي والوطني المبتكر والفعال لمواجهتها. يكفينا عبثاً وملهاة فما عاد في الأفق متسع لكل هذا الهباء.