سيادة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية..
أبدأ رسالتي بكلمة سيادة انحيازاً لأخلاق تربّيت عليها باحترام كل الناس؛ حتى لو كنت أنت..
سيادة الرئيس، لقد قاطعك كل مواطن فلسطيني ومعظم المواطنين العرب وبعض المنتمين والمنحازين لجانبنا الفلسطيني وحقوق الإنسان والعدالة.. في ظل هذه الظروف سأغرد خارج سرب بني وطني وأدعوك لزيارتي هنا في بيتي في مدينة رام الله المحتلة.. نعم في رام الله المحتلة، هذه الجميلة المتربعة على رابية من روابي فلسطيننا.. المدينة الحائزة على كثير من التناقضات والمتميزة بالمختلف وغير المألوف والمألوف في آنٍ معا.. رام الله التي تتزين بجمالية الحداثة وعبق عتيق روحها.
في رام الله المحتلة حيث يجاور بيتي ضريح زعيمنا الشهيد ياسر عرفات، أدعوك لزيارتي وأفرد لك ركناً في بيتي المستأجر بعد رحلة شقاء لفت روحي كما أرواح بني شعبي. سأطلب منك يا سيدي طلباً صغيراً متواضعاً هو أن تسلك دربا خصصه الاحتلال لنا كفلسطينيين للوصول إلى مدينتي. سآتي لأصطحبك من معبر احتلالي نطلق عليه معبر الكرامة في حين يطلق الإسرائيليون عليه اسم اللنبي ولا بد من أنك تعلم - أو ربما لا تعلم - دلالة الاسم! هنا أيضاً ولتسمح لي بأن أطلب منك طلباً آخرا صغيراً ومتواضعاً أيضاً ليتسنى لنا العبور؛ وهو ألا تأتي متأنقاً!! ستخلع هنا نعليك وحزام بنطالك وسترتك.. وحذار أن تحمل ما يثير شبهة كمفتاح سيارتك أو بضعة سنتات أو أداة تقليم أظافرك أو ساعتك؛ إذ من شأن هذه الأشياء على تفاهتها أن تأخذ بنا إلى غرفة التحقيق والتفتيش الجسدي حيث أن تفتيش الأمتعة هو تحصيل حاصل لكل فلسطيني كهلاً كان أم امرأة أم طفلاً.
أعدك سيدي بأن الطريق من مدينة أريحا إلى مدينة رام الله لن تتعدى الخمس وأربعين دقيقة، هذا، إذا لم يستوقفنا حاجز لجنود إسرائيليين لم يتعد عمر الواحد منهم عشرين سنة، سيعمدون وكما أغلب الأحيان إلى التنكيل والتفتيش كائناً من كنت؛ مسناً مريضاً أو حتى طفلاً أو امرأة.. أعتذر مسبقاً إن واجهنا هذا الموقف إذ لا حيلة لنا إلا الانصياع صاغرين أو.. قتلى! نعم كما سمعت.. قتلى.. فليس من حق الفلسطيني الاعتراض على أي إجراء يقدم عليه (أكثر الجيوش أخلاقية في العالم !! )
ها قد واجهنا حاجزا احتلاليا آخر.. حاجز يعتبر الأشق على روح الفلسطيني.. إنه حاجز قلنديا والمتمركز على المدخل الشمالي لعاصمة السماء.. مدينة القدس.. القدس التي تعرفها جيداً ولا أدري سبب المس الذي أصابك حينما وعلى غفلة من العقل سميتها عاصمة للاحتلال! هنا على الجانب الشمالي للحاجز والمؤدي لمدينة رام الله سندخل في أزمة سير قل نظيرها في مدن العالم المشابهة مساحة ووضعاً بالرغم من اختلاف الظرف. إذ يعمد الاحتلال على التضييق على الفلسطيني بكافة مناحي حياته، هنا الشوارع خارج حكم القانون والنظام.. هنا يتساوى الناس في أحقيتهم في أولوية السير. شوارع تفتقر لأدنى رعاية سواء من بنية تحتية أو غيرها إذ لا يسمح الاحتلال بإصلاحها كونها تحت سيطرتهم. على اليسار كما تلاحظ حداً كرّسه الاحتلال كمعبر حدودي يحظر على الفلسطينيين عبوره لمدينة القدس إلا في حالات فردية استثنائية قصوى بعد فحص أمني في نقاط أنشئت خصيصا في مناطق الضفة الفلسطينية المحتلة.. وحتى بعد عدم الممانعة في أخذ تصريح يخول الفلسطيني الدخول إلى قدسه قد يواجه بالرفض دونما سبب!! وإلى الغرب من الحاجز ترى مساحة من الأرض كانت قبل احتلال الضفة الفلسطينية مطاراً فلسطينياً دمره الاحتلال وأعمل الموقع لسنوات واليوم يتم إنشاء مستوطنة على أرضه المغتصبة خاصة بالمستوطنين الصهاينة.
سنواصل المسير باتجاه الشمال فتصبح القدس خلفنا.. هذه البلدة المحاذية لمدينة القدس والممتدة بناياتها وأبراجها السكنية على جانبي شارع القدس هي بلدة كفر عقب؛ وهذه بلدة أخرى لا يحكمها قانون.. معظم ساكنيها من حملة الهوية الإسرائيلية المخصصة للمقدسيين والذين يعتبرون قاطنين وليسوا مواطنين في (واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط) دولة الاحتلال. يقيمون فيها لمحاذاتها لمدينة القدس حيث أن مقار أعمالهم خارجها ويشق عليهم مواجهة المعاناة اليومية ذهابا وإيابا مرورا بحاجز قلنديا الاحتلالي، ومهددون دوما بحرمانهم من الهوية المقدسية إن ثبتت إقامتهم خارج نطاق مدينة القدس. هذا الحاجز المقصلة!! نعم حاجز موت.. هل تعلم يا سيدي كم شاب وشابة استشهدوا وأطلقت عليهم رصاصات الحقد الصهيوني فقط لجهلهم أي مسار عليهم أن يسلكوا ليتحقق الجنود من أذونات عبورهم وهوياتهم؟ استشهدت امرأة في ريعانها تضم في أحشائها جنينها الأول، وحين اقترب منها أخوها الفتى ذو السادسة عشرة من عمره ليحاول انقاذها؛ استهدفته رصاصة جندي إسرائيلي فمات!! كانت المرة الأولى في حياتها تتمكن وأخوها من استصدار تصريح من سلطات الإحتلال لتزور القدس .. كانت في طريقها للصلاة في المسجد الأقصى.. حلمت ولأول مرة في حياتها كالآلاف من أبناء شعبي أن تسير في شوارع القدس العتيقة وأسواقها.. حلمت بالوصول إلى باب العمود ولم تكُ تعلم أن جنود الاحتلال يتمركزون على مدار الساعة وبكامل أسلحتهم على جميع أبواب القدس العتيقة، يتصيدون الأطفال والشبان وينكلون بأهل المدينة في محاولة لإجبارهم على الرحيل، لكن المقدسي والفلسطيني عموماً قابض على قدسه باذلاً في سبيلها الروح.
كم كان بودّي سيدي الرئيس أن تزورني ولا أنغص عليك رحلتك في مشاهدة بشاعة الاحتلال.. كم كان بودي لو استقبلتك في بلدي فلسطين قبل احتلالها.. فلسطين من رأس الناقورة شمالاً وحتى أم الرشراش جنوباً ومن زرقة بحرها الأبيض المتوسط غرباً وحتى نهر الأردن شرقاً.. نهر قدّس مياهه عُمّاد رسول المحبة الفلسطيني المسيح عليه السلام.. كم كان بودي لو جئتني جواً لتحط طائرتك في مطار اللد الفلسطيني والذي أطلق عليه الاحتلال الإسرائيلي زيفاً اسم بن غوريون بعد احتلاله لمدينة اللد في العام 1948. كم كان بودي أن استضيفك في بيت جدي في يافا المحتلة.. لكن هذا لا يمكن؛ فالاحتلال سلب حقي في مجرد زيارة مدينتي كما أنه لم يعد لجدي بيت في يافا بعد أن طرد الاحتلال 250 ألف فلسطيني من ديارهم عام 1948 وكان من ضمنهم أهلي.. لقد أعاد الاحتلال الكرة في الطرد والتطهير العرقي في فلسطيننا في العام 1967.. وكان من تداعيات هذه الجريمة إقامة مخيمات لجوء للفلسطينيين في بقاع شتى.. هنا في الضفة الفلسطينية المحتلة أقيم 22 مخيماً، ناهيك عن مخيمات أقيمت في أرضنا الفلسطينية المحتلة عام 1948 لأهلنا من الداخل المحتل ممن طردوا من قراهم، في محاولة من الاحتلال تطهيرها من أجل توطين ممن يدينون باليهودية مكانهم. لك أن تتخيل هذا يا سيدي!!
بالمناسبة .. أنا واحدة من أولئك الفلسطينيين الذين ولدوا في مخيم بعد أن طرد أهلي من يافا. يافا حاضرة الفن والثقافة والعمران.
سنصل بعيد لحظات إلى البيت.. انظر.. هذا الصرح البادي على يمينك هو ضريح الشهيد القائد ياسر عرفات وقد "سقط الغصن الأخضر من يده" بعد أن استهدفه الاحتلال وقتله غيلة ذات انتفاضة انتهكت فيها إسرائيل كل اتفاقياتها والأعراف والمواثيق الدولية باجتياح الضفة الفلسطينية وإعادة تموضع جيشها الأكثر أخلاقية ليعمل في الفلسطينيين تقتيلاً وهدماً لكل منجز عمراني أو إنساني.. أتساءل.. وربما يصحو ضميرك لتتساءل: كيف لإنسان أن يهبط إلى هذا الدرك من البشاعة؟! إنه الاحتلال.. وأتساءل هل لو أنك عايشت بعضاً من معاناتنا أو اطّلعت على بعض من ممارسات الاحتلال العنصرية ضد شعبي هل كان هذا سيحرك في داخلك حس الإنسان؟
لتعذرني سيدي إذ نغّصت عليك زيارتك وكنت صاحبة الدعوة. كان بودي لو أصطحبك إلى مدينتي يافا.. إلى عكا وحيفا.. إلى كل فلسطين. رجوت الله لو قيض لي الحياة قبل احتلال وطني، حينها كنت أدعوك إلى حواضر إنسانية من الفن والجمال.. لكنه الاحتلال طغى ببشاعته على كل ما هو جميل وطمس معالم الحضارة والفن الفلسطيني، لكنه لم يثن إرادتنا في المقاومة وإيماننا بحتمية النصر
إن تناهى إلى سمعك سيدي بأن أرض فلسطين أرضٌ مقدسة وقداستها ليست حكراً على الفلسطينيين فصدق ما تسمعه. لعل خير دليل على ذلك هذا الصرح الموجع القلب واسمه مقبرة شهداء الجيش العراقي الذي قاتل ببسالة واستشهد جنوده على ثرى فلسطين كشهداء كثيرين غيرهم من أبناء الشعب العربي استنفروا دفاعاً عن أرض عربية مقدسة في العام 1948 وصد هجوم العصابات الصهيونية، سأعرّج هنا وإن شئت مرافقتي لزيارة مقبرة الشهداء وفاءً وتكريماً لأرواحهم.
أخيراً لتسمح لي سيدي أن أسألك ما إذا سبق لك وأن شاركت في تشييع جنودكم الذين قتلوا عند احتلالكم لبغداد عاصمة الثقافة والحضارة الضاربة في عمق التاريخ؟ أسألك لأجل من تراق هذه الدماء وتهدر؟ ألم نكتفِ ألماً.. ألم يكتفِ العالم دماً؟ أللفناء نذرنا أبناءنا ونذرتم أبناءكم؟ لئن كان قدر الفلسطيني أن يذود العدوان والاحتلال عن أرضه بدمه وروحه؛ ترى أي قدر دفع بكم أن ترسلوا أبناءكم ليموتوا ومن أجل من؟
بعد أن اطلعت على بعض من معاناة وطني لنعد أدراجنا إلى مدينة رام الله وستكون سيدي الرئيس برفقة صديق من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، سيجول بك في فلسطيننا لأن الاحتلال يمنعني كفلسطينية من الضفة الفلسطينية المحتلة الدخول إليها، سيجول بك في مدن فلسطيننا من رأس الناقورة وحتى أم الرشراش.. في كرملها وجليلها.. في عكا وحيفا ويافا وبئر السبع.. في كل فلسطين لترى بأم عينك أن شعب فلسطين جدير بالحياة كباقي شعوب الأرض. نحن يا سيدي طلّاب حياة. تُرى أما آن للفارس الفلسطيني أن يترجّل؟ أما آن لآخر احتلال على وجه الأرض أن يندحر ويزول؟ أما آن للإنسان في كل مكان أن يَسهم في إسعاد أخيه الإنسان ويبني حضارة لا تشوبها عنصرية ولا يلونها دم؟