الحدث ـــ محمد بدر
في عام 1979 كانت الشوارع الإيرانية تمتلئ بالشعارات المناهضة للصهيونية والإمبريالية، بالإضافة للشعارات التي تكفر بالفساد الذي أداره لسنين طويلة حاكم إيران السابق محمد رضا بهلوي "الشاه" برعاية أمريكية إسرائيلية. ورغم قبضة "السافاك" الحديدية إلا أن النظام الإيراني بقيادة "الشاه" وجد نفسه ضعيفا أمام الجماهير التي حاصرت مؤسسات النظام ومنطقه.
حاكم إيران السابق محمد رضا بهلوي
كانت الثورة الإسلامية الإيرانية نموذجا جيدا وملهما بالنسبة للكثيرين، خاصة وأنها ثورة قاعدية، فمن جهة حملت الثورة شعارات يمكن وصفها بـ"أيديولوجيا الاحتياجات" بعيدا عن القوالب الأيديولوجية الجاهزة للأحزاب والتيارات؛ أي بمنطق أدق حملت الثورة الهموم والاحتياجات الشعبية إلى سدة شعارات الثورة، وحضاريا كانت شعارات الثورة مناهضة للتحكم الأمريكي في المنطقة وإيران، وبذلك كانت حالة دمج لوصفة تحرر كامل داخليا وسياديا.
الثورة الإيرانية عام 1979
الثورة التي تعتبر أمريكا عدوا لها، وتقتحم سفارتها وتحتجز موظفيها؛ أمامها مهمة خيالية للحفاظ على نفسها؛ هذه المهمة أدرك ضرورتها زعيم ومرشد الثورة الإيرانية آية الله الخميني، الذي سعى لإنشاء قوة ومؤسسات "تحمي الثورة" بعيدا عن مؤسسات الدولة الإيرانية.
كان طرح الخميني ذكيا بعض الشيء، فـحتى لا توصف هذه القوة بالمليشيا التابعة للنظام كما الحال في الدول القمعية الدكتاتورية، أطلق عليها الخميني حرس الثورة الإسلامية، وأعطى هذه القوة الموازية للجيش بعدا قيميا، وعمليا هو استطاع أن يضمن لهذه القوة موازنة من ميزانية الدولة في الوقت الذي لا تتبع فيه هذه القوة للدولة، كما أنه حاول تنزهيها فاعتبرها قوة لحماية الثورة ومكتسباتها، وبشكل تفاضلي فإن الحرس الثوري يمتلك أضعاف ما يمتلكه الجيش الإيراني، سواء على مستوى العتاد أو الأعداد.
هذه القوة وهذه المؤسسات تتبع مباشرة لهيئة الإرشاد، والتي هي أعلى سلطة في دولة تصف نظامها بالرئاسي، واستطاع الخميني أن يجعل من مؤسسات الدولة؛ سواء مؤسسة الرئاسة أو البرلمان هيئات شكلية مرجعيتها مؤسسات الإرشاد، فمثلا أي خلاف قانوني في البرلمان مرده ومرجعه "مجلس صياغة الدستور"، والأخير هيئة تتبع لمؤسسة الإرشاد، وبالإضافة لكون نصف أعضاءه يختارهم المرشد الأعلى، فإنه يضم المرشد كذلك، وبذلك يضاف صوت المرشد للنصف الذي اختاره؛ وهذا يعني أن موقف المرشد عمليا هو الفصل النهائي في أي قرار.
استطاع الخميني من خلال رصيده الشعبي أن يحكم سيطرته على مؤسسات الدولة بدون معارضة، والسبب الآخر الذي ساعده في ذلك؛ هو أن النخبة التي اعتلت معه السلطة يمكن اعتبارها "نخبة" دينية لا تؤمن كثيرا بمنطق الدولة ولا بمؤسساتها، وأصبح الخميني حاكما بلا منازع من خلال نظرية "ولاية الفقيه" التي تعتبر أكبر انقلاب في التاريخ السياسي العقائدي للشيعة.
مشروع أم القرى
كان الخميني لا يسعى فقط لتغيير الحالة السياسية في إيران، بل أعلن عن مشروع "أم القرى" الذي يعني تصدير الثورة الإسلامية لكافة البلاد الإسلامية، ورغم إعلان الخميني أن المشروع لا يحمل بعدا عقائديا، إلا أن الخميني نفسه كان يراهن على الشيعة العرب المتواجدين في الدول العربية لتغيير أنظمة الحكم.
ومع سعي الخميني لرفض التهم المذهبية التي تحوم حول مشروعه، رأى أن دعم المجموعات الثورية الفلسطينية "السنية" يحقق له اختراقا لهذه الفكرة التي ترسخت لدى العرب حول مشروعه، بالإضافة لكون الثورة الفلسطينية في حينها كانت عتبة مقدسة تحج إليها المشاريع في المنطقة، في ذلك الزمن الذي كانت فيه إسرائيل ما تزال عدوا للعرب.. وأصبح دعم القضية الفلسطينية مهمة إيرانية بامتياز ومن خلال فتاوي الخميني الدينية، ومن خلال الخمس الذي يمنح لمؤسسات الإرشاد من قبل المواطنين.
لقاء بين الخميني وياسر عرفات
إسرائيل والمنطق الجديد في المنطقة
بالنسبة لإسرائيل فإن الثورة الإيرانية شكلت انتكاسة كبيرة لها، ليس فقط لأنها أفقدتها دولة حليفة في المنطقة، بل لأن هذه الدولة تحولت لعدو لإسرائيل ومشاريعها في المنطقة، وما يجهله الكثيرون عن علاقة إيران بإسرائيل قبل الثورة؛ هو أن إيران كانت ساحة تجربة للسلاح الإسرائيلي بكل أنواعه، بل أنها كانت ترعى مصانع سلاح إسرائيلية على أراضيها، قبل أن تتحول إيران لمصدر السلاح الأول للمقاومة الفلسطينية، ليس هناك انقلاب في العلاقة أكثر من ذلك.
سعت إسرائيل ومعها المنظومة الغربية لإسقاط النظام الإيراني، وفي كل مرة كان المدخل من خلال منطق الحريات والنظام الديكتاتوري الإيراني، أما الدول العربية فقد تعلقت بالشماعة الطائفية لتحمي نفسها من النموذج الإيراني في التغيير، وهنا يتضح تلاقي الأهداف الإسرائيلية والعربية وكل من زاويته.
سياق المظاهرات في إيران منذ عام 2009
بعد انتهاء المظاهرات في إيران عام 2009، فيما عرف بالثورة الخضراء، والتي قادها الإصلاحيون ضد النظام، نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية تقريرا مفصلا عنها تحت عنوان "الموساد ينظم مظاهرات إيران"، وجاء في التقرير أن مهمة اسقاط النظام من خلال تدخل عسكري تبدو مهمة مستحيلة، ومن الأفضل السعي لإسقاطه من الداخل، أما النظام فكان لديه ما يثبت حديث الصحيفة، فقد أثبتت التحقيقات تورط عناصر من الموساد والمخابرات الغربية في هذه المظاهرات.
خلال مظاهرات 2009 لم تحضر فلسطين كشعار لا من قبل المؤيدين ولا المعارضين للنظام، كانت الشعارات تطالب بالفصل بين حكم المرشد وحكم الدولة، وهو مطلب للإصلاحيين ما كان ليظهر لولا أن كاريزمية المرشد الجديد "آية الله علي خامنائي" أصبحت على المحك، ولولا تقلب آراء المحافظين على أنفسهم وانقسامهم؛ الأمر الذي اضطر الخمنائي للاصطفاف في صف جماعة على حساب جماعة، ما أدى لفقدانه بعضا من صفته الجامعة. ولكن من المهم التأكيد أن فلسطين حينها لم تكن ضمن شعارات أي طرف منهم، وبقيت القضية الجامعة للجميع هناك.
الثورة الخضراء في إيران عام 2009
عدوى التطبيع العربي
مظاهرات 2018 تأتي مختلفة، تقع فلسطين في صلب شعاراتها، رغم أن الكل في إيران يعلم أن الضائقة الاقتصادية سببها انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي بضغط من إسرائيل، إلا أن فلسطين ظهرت في شعارات المحتجين بشكل جديد، وبشعارات جديدة.. وسمعنا أخيرا في إيران شعارات "الموت لفلسطين" و"الموت لغزة"، وكأن البروبغاندا الإسرائيلية حول الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها إيران وترويجها أنها بسبب دعم إيران للمقاومة وليس بسبب الضغط الإسرائيلي على الولايات المتحدة للانسحاب من الاتفاق النووي؛ قد نجحت بأن تصبح صورة ذهنية لدى الإيرانيين.
ولكن وبكل الأحوال، فظاهرة التطبيع العربي الإسرائيلي له تأثير كبير في طرح هذه الشعارات، فقد أصبح العرب أسوأ كابوس على المقاومة الفلسطينية من خلال مشاريعهم التطبيعية؛ التي جعلت من السهل محاربة فكرة المقاومة الفلسطينية، وانتهى الأمر بالقضية الفلسطينية لأن تصبح مشروعا خاصا لبعض الدول وبعض الحركات، كما أن البربوغاندا الإسرائيلية تثبت يوما بعد يوم أنها الأقوى في العالم، في المقابل فإن المقاومة الفلسطينية وبعض سلوكياتها أضرت بالعلاقة الوجدانية مع إيران، من خلال النفخ في المعاني الطائفية بعد ما يسمى بالربيع العربي، وهو الأمر الذي أضر بسمعة المقاومة وسلوكياتها في الشارع الإيراني، وأصبح من الممكن رؤية صندوق التبرعات الخاص بغزة حطاما في شوارع إيران، والهتافات ضد فلسطين أمرا روتينيا في كل مظاهرة احتجاج على النظام.
ثورة النظام ضد النظام.. والمعارضة ضد النظام
السؤال المهم؛ هل سيسقط النظام الإيراني المتمثل بمؤسسة الولي الفقيه في حال اشتدت المظاهرات؟ والإجابة تبدو على هذا السؤال غريبة؛ من جهة فإن مؤسسة الإرشاد تحاول الاستفادة من هذه المظاهرات لاسقاط حكومة الإصلاحي حسن روحاني، بينما يسعى الإصلاحيون والغرب وإسرائيل لإسقاط نظام الولي الفقيه من خلال هذه المظاهرات.
حسن روحاني، يحاول مناقشة ميزانيات المحافظين ومؤسسات الإرشاد من أجل أن يدمج هذه المؤسسات في مؤسسات الدولة وحتى يصبح الرئيس صاحب السلطة الأكبر، وهو بصورة أو بأخرى يحاول تجنيد الشارع لصالحه ضد مؤسسات الإرشاد خاصة الحرس الثوري، وقد طالب علنا بضم الحرس الثوري للجيش.
روحاني يرى أنه أضحى رئيسا تبريريا لمنطق الإرشاد والحرس الثوري، عندما يذهب الحرس الثوري لسوريا والعراق فإن آخر من يعلم هو الرئيس الإيراني حسن روحاني، وفي كل الحالات فهو مضطر للدفاع عن هذا الوجود وعن هذه السياسة، بالنسبة له فإن هذه الحالة يجب أن تنتهي.
في المقابل؛ مؤسسة الإرشاد فعّلت قانون الإعدام بحق قادة المتظاهرين وشكلت لجنة قضائية خاصة بعيدا عن القضاء الحكومي تحت شعار أن هذه المظاهرات تنظمها إسرائيل والولايات المتحدة من وراء الكواليس، كما أن أذرع الإرشاد تحاول توجيه المظاهرات ضد الحكومة في سبيل اسقاطها، لأن الحكومة بالنسبة للمرشد أصبحت عينا على الحرس الثوري وغيره من المؤسسات.
مهمة إسقاط النظام أقرب للمعجزة، الحرس الثوري والأذرع الأمنية التابعة له في جهوزية تامة للتدخل من خلال مئات الآلاف من المقاتلين، وقد تدخلوا بالفعل في شارع الجمهورية في طهران وفضوا مظاهرة كبيرة بسرعة قياسية، ورغم أن المظاهرات تتركز في ثلاثة شوارع في إيران، إلا أن جهوزية القوات الموالية للمرشد كبيرة، وبالفعل تم نقل آلاف العناصر للعاصمة طهران، والمشهد التالي على الأغلب سيكون اسقاط الحكومة برئاسة روحاني ومشاهد إعدام لقادة المتظاهرين الهاتفين بموت الخامنائي وفلسطين ولن تسقط فلسطين من حسابات المرشد الأعلى ولا من حسابات الحرس الثوري الإيراني.
هتافات في #ايران "#الموت_لفلسطين" pic.twitter.com/0ecaxZ2Ew8
— Rola Sirhan رولا سرحان (@SirhanRola) 1 July 2018
هتافات #الموت_لفلسطين وتكسير صندوق تبرعات #مسيرة_العودة في #إيران pic.twitter.com/5Q0RHCb0Yd
— Rola Sirhan رولا سرحان (@SirhanRola) 1 July 2018