الحدث ـــ محمد بدر
"أما الأهداف فهي منازلة الباطل ودحره، ليسود الحق، وتعود الأوطان، وينطلق من فوق مساجدها الآذان معلنا قيام دولة الإسلام، ليعود الناس والأشياء كل إلى مكانه الصحيح، والله المستعان"، "إن أهدافنا تتمثل في حماية حق شعبنا في الدفاع عن نفسه.. ومواصلة النضال حتى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس"، "إن الشعب الفلسطيني في الوطن والمنافي يسعى ويناضل من أجل تحرير أرضه.. وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على جميع الأراضي على حدود 1967". هذه ليست مبادئ لثلاث تنظيمات أو تيارات فلسطينية مختلفة، وليست مرتكزات سياسية لتيارات مختلفة؛ دينية ووطنية.. هذا خطاب حماس مع فارق التوقيت والفتوى والواقع.
الاقتباس الأول هو البند التاسع في ميثاق حماس، والثاني جاء في خطاب لإسماعيل هنية في مارس 2006 والاقتباس الثالث جزء من خطاب لهنية على بعد أشهر من الخطاب الوارد في الاقتباس الثاني.
ما يهمنا الآن، أي هذه الاقتباسات أقرب لدعوة ضابط حماس الأمني السابق إسلام شهوان للتفاوض مع الاحتلال بشكل مباشر؟ حتما ليس الأول؛ مع الرغم أنه يحمل خلطا بين الأهداف والوسائل إلا أنه الأبعد عن دعوة شهوان، وتقريبا ليس الاقتباس الثاني، ويبقى الاقتباس الأخير رغم ما يحتمل من غموض في الآليات لتطبيق الأهداف هو الأقرب.. فهل حماس ذاهبة لخيار الدولتين على خطى منظمة التحرير من خلال تفاوض مباشر أو من خلال حل إقليمي دولي أو إلى أقل من ذلك؟!
بجميع الأحوال فإن دولة فلسطينية على حدود 1967 لا يعني الاعتراف بإسرائيل، وهذا ما كانت حماس تبرر به موافقتها على هذا الطرح، حتى خرج رئيس مكتبها السياسي السابق خالد مشعل قبل انتهاء ولايته بأيام معلنا أن الاعتراف بإسرائيل مسألة تخضع للتوافق الشعبي الفلسطيني والاستفتاء، وحمل خطاب مشعل حينها رسائل لإسرائيل والعالم والولايات المتحدة مفادها أن حماس برغماتية إلى نحو "ثوري" صادم.
الخطاب الديني والخطاب السياسي
لقد ظلت فلسطين في وعي حركة حماس أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر واحد منها لصالح الاحتلال الإسرائيلي، واستعارت حماس الآيات والأحاديث النبوية المحمدية كذخيرة حية في مواجهة المشاريع السياسية التي كانت تتبلور في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، واستطاعت حماس أن تخلق حالة من التمايز بينها وبين طرح التيار الوطني؛ الأمر الذي أكسبها زخما في الشارع الفلسطيني وجعلها تتقدم صفوف المعارضة الفلسطينية الإسلامية منها (حركة الجهاد) واليسارية منها، مستفيدة من التجذر الاجتماعي والفعل الاجتماعي لتيار الإخوان المسلمين في فلسطين على مدار عشرات السنوات.
بدأت ملاحقة حماس من قبل الاحتلال مع انطلاقتها، وتكثفت ملاحقة الحركة في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، وفي هذه الفترة؛ وعلى بعد سنوات قليلة من خطاباها الجذري الأول، أظهرت خطابا دينيا سياسيا أكثر "برجماتية" استجابة لضغط المرحلة، وجاء مقترحها لأول مرة لهدنة طويلة الأمد مع إسرائيل.
حركات الإسلام السياسي بشكل عام ما يميزها أنها تحاول تفسير الشريعة الإسلامية بما يخدم حراكها السياسي، وما يميز مدرسة الإخوان المسلمين (مدرسة حماس) أنها مدرسة تولي الاجتهاد في فقه المصالح المرسلة مساحة كبيرة على عكس التيارات السلفية، وتبرر الإخوان المسلمين التغيرات في خطابها السياسي من خلال يعرف في الفقه الإسلامي بالمصالح المرسلة، وهذه الزاوية محل اشتباك بين مدرسة النص (السفلية) ومدرسة الإخوان المسلمين.
الهدنة تقدمها حماس على أنها خيار لا يصطدم مع القناعات الدينية والسياسية لها، فهي من ناحية تضمن عدم اعتراف بإسرائيل ومن ناحية أخرى يمكن تبريرها شرعيا من خلال "اتفاقات الصلح" التي عقدها النبي محمد مع ما يطلق المسلمون بالكفار. وكانت أكثر النماذج قربا لطرح حماس في موضوع الهدنة؛ اتفاقيات الهدنة "رودوس" عام 1949 وكذلك اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 1974.
وتقبل حماس بإقامة دولة دولة فلسطينية على خطوط الهدنة 67، مع وقف كافة أشكال الصراع مع إسرائيل والجديد هو إمكانية الاعتراف بإسرائيل بحسب تصريح خالد مشعل قبل انتهاء ولايته ولكن طرح مشعل قد لا يكون أكثر من مداعبة مشاعر في الفضاء العالمي وقد يكون سقف سياسي جديد لحماس.
لماذا الهدنة؟
إضافة للإمكانيات التبريرية التي تساعد الهدنة في تقديمها، فإنها إيضا تبقي حالة من التمايز تسعى لها حماس بينها وبين المنظمة، وتبقيها على صلة مع تنظيمات المعارضة وجماهير المعارضة من مكان الحكم، على قاعدة التعبير عن السلوك الموالي بمنطق معارض حتى لا تخسر السلطة والمعارضة.
لكن إسرائيل تعلم جيدا أهداف حماس ومساعيها، لذلك فإن إسرائيل تصرّ على مسألة نزع السلاح والاعتراف المسبق بإسرائيل، والذي تبدي حماس استعدادا ضمنيا للتصرف على أساسه (الاعتراف) دون التصريح به.
حماس إلى أين؟
فلنبدأ من مسيرة العودة، هذه المسيرة تعبير حقيقي عن علاقة عادت مع إيران وعلاقة قائمة مع قطر وتركيا، وهي تعبير ضمني عن سقف إيراني وأرضية قطرية، جعلت حماس تستحدث نوعا جديدا من المقاومة في سلوكها.
ليس هذا فحسب، عند الحديث عن معادلة القصف بالقصف والدم بالدم، فإننا نتعامل مع رؤية إيرانية في غزة، وعند الحديث عن حراك دولي لحل مسألة غزة الإنسانية ضمن حل سياسي أمني إنساني؛ فإننا عمليا نتحدث عن رؤية قطرية في موضوع غزة.
ليست إسرائيل وحدها تفقد استراتيجيات للتعامل مع الواقع الغزي، بل حماس نفسها، في ظل زهد السلطة عن حكم غزة، واترباك خيارات حماس أمام واقع مشتبك، ولذلك فإن الرؤية الحمساوية القادمة قد تكون مفاجئة ارتجالية علامتها الفارقة لحظة من الزمن والضغط والعلاقات.
وفي متغيرات المعادلة الشرعية السياسية لحماس، فإننا نلاحظ انخفاض السقف من تحرير فلسطين كواجب ديني سياسي، إلى إبرام هدنة لا تتنافى والقيم الشرعية، وأخيرا تلبية احتياجات الناس الإنسانية كواجب شرعي وطني.. الخ.
العالم كله في غزة.. وصفقة القرن
قبل أيام نشر راديو إسرائيل تحليلا عن صفقة القرن، جاء فيه: أن صفقة القرن تبدو صعبة التطبيق ككتلة واحدة، ويبدو أن الدور الأمريكي أصبح مشبوها ومرفوضا، لذلك فإن الأمريكيين وجدوا أن الحل يكمن في أن تتصدر الأمم المتحدة ــ كجهة مقبولةــ الواجهة من خلال عدة مشاريع تلبي احتياجات غزة الإنسانية بثمن سياسي أمني مع الحفاظ على الوضع القائم، في المقابل تبقى المعادلة في الضفة الغربية كما هي، ويعيش الاستيطان أفضل لحظات عمره في ظل فصل سياسي في الحلول، وبذلك تنعدم الكينونة السياسية السيادية الفلسطينية واقعيا وتصبح إسرائيل في غنى عن المشاريع الأمريكية الكبيرة التي قد تؤجج موجة "عنف" جديدة.
هذه هي المعادلة الجديدة؛ هدنة بدون حدود بعيدا عن طرح حماس، ودويلات بعيدا عن منطق الدولة كما تطرح السلطة، بل حالة سياسية بمزاج النظام الدولي وإسرائيل.