قبلَ أسبوع تقريبًا وجّهت لي مؤسّسة ما دعوة لِحضور جَلسة نِقاش بعنوان: "الدبلوماسيّة الفلسطينيّة وخيارات منظّمة التّحرير لمواجهة صفقة القرن"، وذلكَ ضمن مشروع حِوار على السّطح، الذي يسعى –حسبَ الجهة المُنظّمة- لتكوين قيادَة شبابيّة سياسيّة فاعِلة، مشارِكة في صنع القرار السّياسي، وزيادَة الوعي الجَماهيري. دخلتُ قاعَة اللّقاء، كان الحُضور جيّدًا، لكن لم يَكن سوى بضعِ شباب في القاعة، تلفّتت حولي، تبسّمت، سيناقشُ المُسنونَ بعضهم البعض إذن.
بدأت جَلسة النّقاش الأولى، وتلتها جَلسات مِن التّنظير، المثاليّة، التوجيهات، النّقاشات الغريبة بين قادَة أحزاب لا أعرفها إلّا اسمًا، ونواب، وسياسيين، مسؤولة تقول: "لا أعرف ربّما صفقة القرن كأي مشروع سابِق"، مُسِن يدلي بمداخَلة، ثم يسأل ضاحكًا: "هل مُصطلحاتي ما زالت مُناسِبة للعصر؟"، وددت أن أقول: "لا، إنّها غاية في القِدم"، أخرى تتساءل عن عدم وجود عددٍ كافٍ من الشّباب، وتقول إنّ الجامعات مغيّبة أو غائِبة، آخر يقول: "لن تمر صفقة القَرن ما لم يوقّع عليها الفلسطينيون"، الجَميع يدلي بدلوه في مثاليّة منقطعة النّظير، ويلقي الاتّهامات، ولا وُجود لأيّ متحدّث شاب.
دعونا نتّفق أنّ نسبة المُسنّين في الشّعب الفلسطيني لا تزيد عن 5% حسب إحصاء حديث، لكنّ هذه النّسبة تتحكم في البقيّة الباقيّة، ثقافيًا، سياسيًا، اقتصاديًا، تنمويًا، إعلاميًا. دعونا نتّفق أيضًا أنّ الشّباب هم النّسبة الأكثر، لكنّ البطالة تنهش أياديهم، الفقر، التّجهيل، التّغييب، وأكثر من هذا، لا أودّ أن أسأل كيفَ سيهتم الشاب بالقضايا الوطنيّة وهو لا يجد ما يسدّ رمقه، هذا غير مُنصِف، غير وَطني ربّما بشكل كامِل، لكنّ عليّ أن أسأل لماذا لا يُمكّن الشّباب، ولا يأخذ دوره الرّيادي؛ كي يكونَ قادرًا على التّغيير والقيادة، كيفَ نطلب من مقيّد بالسّلاسل أن يحملَ سيفًا ويواجِه عشرة أعداء في ذاتِ الوقت، هذا سَيفسّر بشكل جيّد حالة الانفجار في غزّة، أو نحو نقاط التّماس، والعمليات الفرديّة قبل عامين في الضّفة والقدس.
الجميع يتحدّث عن صفقة القرن، كأنّها نهضت مرّة واحدة إلى عقول الشّعب، أذكر قبلَ أكثر من سنتين كتبت عنها، بالماهيّة وليسَ باللّفظ الحرفي، وقبل سنة - وأقصد ألّا أستخدم(عام) - أيضًا كتبت عدّة مقالات تفصيليّة، وكنتُ أستغرقُ وقتًا طويلًا في شرح ما أكتب لقارئ سَمِج، معتد بنظرته السّياسيّة -العاطفيّة، أما الآن فالجميع يغرّد على الهاشتاغ، والجَميع أصبح يفهم، أو يدّعي الفهم لما يدور حَوله، إنّنا نستيقظ مرّة واحدة، ودائِمًا بعد فوات الأوان على ما يبدو، أي بعدَ سَنوات من ورقة ايغورا آيلاند عن مركز بيغن السادات، بعدَ قانون جامعة إرئيل، بعدَ نُضوج مشروع القدس الكُبرى، ومجمّع المستوطنات، ونَقل السّفارة، والطّرق البديلة، وإغراق الفلسطيني بالدّيون، وإشغاله بلقمة العيش، واعتِقال أو اغتيال القيادات الثّوريّة الفاعِلة، صَفقة القرن يا سادَة جاهِزة، والخان الأحمر آخِر الخطوات، آخر متراسٍ للمَدينة –الدّولة، والقيادَة الفلسطينيّة تحاول بكلتا يديها منع هذا، لكن هَل تحاول بالشّكل الصّحيح؟
أمام كُل هذا عَلينا تذكّر ديوجين، وديوجين أحد أهمّ فلاسِفة المدرسة الكلبيّة، التي تفرّعت عن السّقراطيّة مع مدرستين أخريين: الرواقية والأبيقورية، واعتقدت هذه المدرسة أنّ الفضيلة الكبرى تكمن في مقدرة التّخلي عن كل شيء، وأقول المَدرسة رغم أنّ الكثير من الباحثين اعتبروها طريقة حياة، ولم ترقَ إلى المدرسة الفلسفيّة المنظّمة، واستدلّوا بقول ديوجين عندما سئل عن أهميّة الفلسفة: " ما أهميّة أن تعيش، إذا لم تتعلم كيفَ تعيش بشكل جيّد"، مربط الفَرس في الأمر أنّ ديوجين استطاع نوعًا ما التوفيق بين النّظرية والتّطبيق، فروي أنّه عاشَ في برميل، وأنّه كانَ يحمل مصباحًا في النّهار ويبحث عن الرّجل الفاضل في مدينته، هذا ما أردته، جسر الهوّة بين النظريّة والتّطبيق في شخص ديوجين، وهو أمر أبعد قليلًا عن أفكار المدرسة الكلبيّة ككل، هذا ما أريده جسر الهوّة هنا أيضًا، إنهاء مهزَلة التّراشق الإعلامي والسّياسي الداخِلي، تمكين الشباب، وتوفير الوظائِف والفرص الرّياديّة والقياديّة، التّوزيع العادِل للاقتصاد الوَطني، رفع مستوى المَعيشة، التوعية السّياسيّة والحزبيّة، بحيث يعود الحزب وسيلة لا غاية، وإلّا سنكون وجهًا لوجه أمام نهاية الجزء السّبعين من مسلسل المعاناة الفلسطينيّة، أو سَنكون مضطرين لتَطبيق ما قاله سام بحور عَن فصل الحُقوق المدنيّة عن الحقوق السّياسيّة، أو الوطنيّة بعدَ ماراثون طويل من الجَري في المَكان، على صُنّاع القرار أن يلتفتوا إلى هذا بشكل يوازي الجُهود الدّبلوماسيّة الدّوليّة، فرحم الله رجلًا رآى بيتَه يريدُ أن ينقضّ فأقامَه!