لأكثر من 25 سنة لم تبارح فلسطين مضمار بناء القدرات؛ ورغم الكم الهائل من الموارد التي كُرِّست من وقت، ومال، وجهد للارتقاء بمواردنا البشرية؛ إلَّا أن هذه المساعي باءت بالفشل دون تحقيق النتائج المرجوة منها؛ مما يقرع جرس الحاجة لأخذ وقفة وإلقاء نظرة أخرى على موردنا الوطني الأهم متمثلاً بأفراد شعبنا الفلسطيني.
هناك ثلاثة قطاعات تضلع بدفع عجلة التنمية في فلسطين، إذ يتولى القطاع العام مسؤولية تنظيم عملية التنمية ووضع السياسات وضبط وجهة البوصلة الاستراتيجية للتنمية؛ والقطاع الخاص، الذي شهد ازدهاراً إثر التقدم الذي مر به المشهد السياسي في أعقاب عام 1993. أما ثالث هذه القطاعات فيتمثل بمجتمع المانحين الذي لطالما قدم مساهمة ملموسة وملحوظة خلال العقود الثلاثة الماضية على صعيد ما قدمه من دعم ومساعدة لشعبنا الفلسطيني.
وبالانتقال إلى التدريب الاحترافي الرامي لتحسين المهارات، وتطوير المفاهيم، وتغيير السلوكيات لتحسين الأداء، فإنه لم ينفك عن جذب مجتمع المانحين، ذلك أن مثل هذا الاستثمار الناعم، إن جاز التعبير، يَسْهُل تبريره، ويحول الانتباه بعيداً عن القضايا الملحة التي تساور التنمية على صعيد البنية التحتية المادية باعتبار الأخير مضماراً محفوفا بالعراقيل الإسرائيلية، أو عوز السلطة الفلسطينية للكفاءة اللازمة لخوض غماره.
مفتقراً لمصادر تمويل مستدامة ونظام حوكمة متين يستحيل القطاع العام الفلسطيني إلى متلقٍ لبرامج تدريبية محاكة بأيدي الجهات المانحة، برامج توقد المنافسة بين كوادر القطاع العام، لكن لا يتجاوز الدافع لهذه المنافسة الرغبة في الفرار من حيطان المكتب، لا رغبة ولا سعياً لتحقيق التطور المهني.
في الآونة الأخيرة، نجد شركات تخصص موازنات لتدريب موظفيها، ومع ذلك، فإن هذه الموازنات محدودة من حيث الحجم والتأثير بسبب الافتقار إلى التخطيط المبني على تقييم الاحتياجات، وغيره من التقييمات ذات الصلة ناهيك عن عدم وضوح معايير اختيار المشاركين في التدريبات.
إن الأخبار السيئة التي يمكن لنا استقاؤها مما تقدم لنا إزاء ضعف عام على مستوى قيادة تنمية الموارد البشرية الوطنية وتدني مستوى التنسيق بين القطاعات؛ لتبقى العملية التنموية المنشودة بعيدة عن مراميها، بالإضافة للبطء على صعيد النتائج الناشئة عنها؛ وبالتالي ضعف الأثر المرجو.
البدء من الخطوة الثانية
تؤمن جميع القطاعات الثلاثة (أي العام والخاص والمنظمات غير الحكومية) والذراع الأكاديمية من جامعات ومؤسسات تدريب وتعليم تقني ومهني بمحورية دور التدريب في صقل المهارات وخلق المزيد من الطاقات البشرية المبادرة.
قبل أكثر من عقد من الزمان، آمنت الشركات المحلية بأهمية التدريب لتحقيق النمو والنهوض بالعمليات والمضي بها قدما، وما أكثر أمثلة الاقتصادات الصغيرة التي تتنافس على جودة مواردها البشرية حول العالم، الأمر الذي تنبهت له الشركات الفلسطينية آنذاك.
لكن ما زال اقتصادنا منذ أن أخذ في التبلور في عوز إلى عمليات ممنهجة تضمن اتساق عملية إرساء أساس متين للمعرفة يُمكن التعويل والبناء عليه، بغض النظر عن القطاع المعني.
لقد أصبح من الواضح لي بعد أن أنشأت وأدرت شركة تدريب، أن الناس يتعاملون مع التدريب بهدف التطوير الشخصي، في حين تلجأ الشركات للتدريب بغرض الاستثمار في مواردها البشرية، لكن كلا المقاربتين تولي تركيزها على تقديم التدريب فقط!
الجزر الثلاث
هناك ملاحظة أخرى حول القطاعات الثلاثة، لا توجد آلية حقيقية لتبادل المعلومات فيما بين هذه القطاعات؛ لا ضمن إطار مجتمع المانحين، ولا بين المؤسسات الحكومية، ناهيك عن استبعاد القطاع الخاص من عملية تحديد ما هو مطلوب لبناء القدرات من أجل دعم الاحتياجات الإجمالية للاقتصاد.
لذا لابد من وجود استراتيجية لتيسير هذه العلاقة وتحديث متطلبات التدريب الوطنية باستمرار، بحيث تغدو هذه الاستراتيجية بمثابة منارة لتوجيه استخدام الموارد بشكل صحيح، لاسيما أموال المانحين التي يمكن أن تشكل عامل دعم محوري بدلاً من تنافسها مع القطاع الخاص. وقد يسوقنا ذلك لإعادة النظر في القوانين التي تنظم المساعدات الأجنبية في فلسطين.
تتطلب هذه المهمة من يحمل شعلة خطة استراتيجية لتطوير صناعة التدريب، بحيث تأخذ جميع القطاعات أدوارها للحيلولة دون إخماد نور هذه الشعلة. يُشار في هذا السياق للجهود المكثفة التي قامت بها المؤسسات العامة مثل وزارات الاقتصاد الوطني، والعمل، والتعليم والتعليم العالي، ولكن لا شك بأن تكاتف وتعاون هذه الأطراف سوف يتمخض عنه نتائج استثنائية.
من جانب آخر، يقدم مجتمع المانحين معرفة فنية مختلفة لسوقنا المحلي، سواء راقنا ذلك أم لا. بدورنا يجب أن نحدد كيفية الاستفادة من هذه المعرفة واستغلالها؛ لذا يجب أن يجلس المانحون وطرح ما في جعبتهم من أفكار ومنح، على نفس الطاولة التي يجلس عليها الفلسطينيون للتخطيط لمستقبلهم من أجل دمج المفاهيم وإيجاد أرضية مشتركة للتعاون.
وبالنظر للمصلحة الراسخة؛ للقطاع الخاص مصلحة أيضا، فلا بد أن يكون له مقعد على هذا الطاولة؛ لكي يعمل مع القطاع العام والجهات المانحة، بالإضافة إلى المؤسسات الأكاديمية، لرسم خارطة الطريق للخروج بنتائج أكثر استدامة.
شهدت الآونة الأخيرة والأخيرة فقط بعض الجهود في هذا الاتجاه، لكنها ما زالت في مهدها ويعتريها ما يعتريها من تشتت. إن ما نحتاجه هو جهد تنسيقي قوي مُمَأسَس -لا بل قد نكون بحاجة لمعهد أبحاث متخصص يضم مجموعة من الخبراء للبحث وإسداء المشورة والأفكار حول تحديات بناء القدرات.
أما فيما يتعلق بتهيئة طلاب الجامعات، فهم بحاجة لأساتذة ملزمين بالبحث عن فرص عمل استشارية، أو تدريب، أو أي فرصة بغرض تقديم دراسات حالة واقعية تربط الطلاب بواقع السوق؛ مما يعطي الطلاب فرصة أفضل لتطوير عقلية ريادية وإمكانيات إبداعية أوسع أُفقاً، وسيعمل ذلك على إبقاء الأساتذة على اتصال مع واقعنا الاقتصادي الصعب.
تحتاج هذه العلاقة بين القطاعات الثلاثة إلى إعادة الترتيب بحيث تتحول من كونها جزر متفرقة إلى أضلاع مثلث مترابطة ومتحالفة، دون تهديد أي منها أو الرغبة في دمجها، لأن لكل قطاع دوره الهام والمكمل.
المضي قدماً
علمتني السنون الـ15 في صناعة التدريب حقيقة مفادها استحالة نجاح التدريب على اعتبار أنه لحن منفرد. إذ تبدأ العلاقة الناجحة بنظرة مستقبلية ترمي إلى التعاون والتكامل. إن التدريب ليس عملية قائمة بذاتها يتم تنظيمها في أروقة أقسام الموارد البشرية، كما أنه ليس اختياراً عشوائياً لخريج تائه لا يعرف الاتجاه الذي يجب اتباعه للحصول على مسار وظيفي، بل إن التدريب الفعال هو جهد مستمر وتعاوني من عدة أطراف. يفخر الناس أحيانًا بالنجاح في مجالات أخرى غير دراستهم، وكثير من الذين التقيت بهم دخلوا مجال آخر غير مجال تعلمهم عن طريق الصدفة بينما كانوا يدرسون ويخططون لمستقبل مهني مختلف آنذاك.
لكن لابد من التأكيد بأن الأمور ليست سيئة كما قد يتصورها البعض، إذ أن حالة التدريب في فلسطين ليست من السوء للبدء من الصفر. إذا اخترنا جميعاً أن نوحد الجهود من أجل المصلحة الفضلى لبناء دولتنا بسواعدنا، فيمكن أن نكون في مكان مختلف تماماً وفي زمن قياسي.
ولعل جمعية المدربين الفلسطينيين، التي تأسست عام 2015، أحد الأمثلة على توحيد الجهود في هذا السياق، إذ جمع مؤسسو الجمعية اعتقادهم المشترك بحاجة قطاع التدريب لمعايير لضبط جودة مخرجاته. وبصفتي نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية، لا يمكننا إنكار كم الرغبة والعزم على بذل جهود مشتركة واعدة تنشد النجاح وتنعكس على الجميع من مجتمع المدربين، والمستفيدين من عملية التدريب، وجهات شراء خدمات التدريب.
أمَّا للمضي قدما، فنحن بحاجة لأخذ خطوة إلى الوراء وتقييم الوضع الراهن، نظراً للحاجة الملحة لتقييم الاحتياجات التدريبية الوطنية بما يشمل جميع الأسواق (المحلية، والإقليمية، والدولية، والافتراضية) والقدرات المطلوبة لخدمة هذه الأسواق.
كذلك، نحتاج إلى خطة عمل موحدة تندرج وينضوي تحت لوائها القطاعات الثلاثة بصفتها شركاء متساوين، ويجب أن نركز على مجموعة أساسية من المهارات التي يجب على أي شخص أن يتحلى بها بغض النظر عن مجال دراسته، وفي الوقت نفسه علينا توجيه شبابنا إلى النظر بشكل منهجي إلى التدريب المهني على اعتبار أنه جهد مستمر يمكن تحقيق نتائجه الملموسة في السوق.
أختم بالقول إن التدريب ليس عصاً سحرية، فهو بحاجة مستمرة للتطوير، ويجب أن ندمج في جميع جهودنا التدريبية مقياسًا متيناً للأثر الناتج عن التدريب مع مراقبة عملية تنفيذه عن كثب.
لذا إذا ما أردنا المضي قدما فلابد أن نعمل سوياً بتركيز وتصميم لا ينثنيان.