لا أرغب البتة في ممارسة هواية التحليل الشائعة هذه الأيام في فلسطين والعالم العربي. فهذه أصبحت طرفة محزنة لكل من عنده حس بالضمير أو شيء من العقل. تعرفون أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة كونداليزارايس السمراء المشهورة باحتقارها للعرب، كانت تجيب على الأسئلة بشرح موقف الولايات المتحدة، أو مطالبة صدام حسين أن يتخلى عن أسلحة الدمار الشامل المخبأة في غرفة نوم زوجته ساجدة، أو تهديد كوريا الشمالية وحزب الله بالويل والثبور. لم تكن رايس لتشغل نفسها بتقديم التحليلات السياسية على الرغم من أنها كانت رئيسة دائرة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد الشهيرة. التحليل يا أخواتي وإخوتي يقوم به مراقب حيادي، أو صحفي، أو عالم سياسة مقارنة أو علاقات دولية، أما رئيس الدولة ووزير خارجيته ووزير دفاعه فلهم شأن آخر يتصل بصناعة الحدث السياسي والعسكري الذي يترك فيما بعد لأقلام المحللين. وحدنا من دون شعوب الأرض وأممها امتهن زعماؤنا وقادتنا دور المحللين، فما تكاد تسأل أحدهم عن فلسطين وسيل الدماء في غزة حتى ينبري لتوضيح أبعاد السياسة الإسرائيلية ومشاكل نتانياهو حتى لتظن أنك أمام المفكر العربي صانع التحليل الأشهر في قناة الجزيرة العلامة عزمي بشارة. لا أريد أن أحلل هذه الظاهرة لأن المواطن العربي والفلسطيني كره نفسه جراء هذا "الهبل" الذي لا يشبهه شيء، لذلك أقول بسرعة: إن هذا تغطية للعجز عن الفعل، وربما، وهذا أخطر، رسالة ضمنية للمواطن العربي أننا نعاج –كما تفضل أمير قطر بإبلاغنا- لا حول لنا ولا قوة، وعلينا فقط أن ننتظر ما يتمخض عن نقاش إسرائيل الداخلي، أو في أحسن الأحوال نقاش إسرائيل مع أختها الكبرى الولايات المتحدة.
في السياق ذاته هناك ظاهرة أخرى تتصل بتوجيه النصح "التحليلي" للجماهير الفلسطينية بأن عليها أن تذهب إلى الانتفاضة الثالثة. وهذا "هبل" حتى من الناحية التحليلية لأن جمهور المواطنين لا ينزل للشوارع بناء على رغبات المحللين، ذلك أن هناك سيرورة معقدة تحكم الحراك الشعبي ليس من السهل التنبؤ بها. بل لعل أفضل طريقة لإعاقتها هي القيام بدور المعلم من قبل طرف لا علاقة له بالفعل. ومن المؤسف أن بعضاً من قوى المقاومة الفلسطينية ذاتها قد ابتلع هذا الدور العجيب وأخذ يوجه الإرشادات والنصائح للشعب وللسلطة الفلسطينية على الرغم من أن دوره هو النضال وليس التحليل ولا توجيه الإرشادات.
في ظل حالة تشكل القاع الجديد للأمة العربية في سياق "الشتاء العربي" الذي فتت بعض الدول وحولها إلى دول فاشلة ( ليبيا، العراق، اليمن) وكاد يقضي على سوريا، بينما جلب لنا قيادات وأنظمة على مقاس الاحتياج الأمريكي والإسرائيلي (تونس ومصر)، تقف غزة التي لم تنج "حكومتها" من ارتكاب الأخطاء السياسية القاتلة في حقبة الشتاء بالذات، تقاتل وحدها بدموع العين، وبالكف التي تواجه المخرز، وبعزيمة حفنة من الأبطال الذين أتقنوا إطلاق الصواريخ البدائية التي على الرغم من كل شيء تقض مضاجع الأعداء، وتنجح في إحالة حياة المستوطن في كل مكان من فلسطين إلى معاناة وقلق على مدار الساعة. غزة تقاتل بما تيسر، بما في ذلك القتال الرمزي الذي يشمل إطلاق البالونات والطائرات الورقية المشتعلة.
لكن حتى ذلك النضال السلمي لم ينج من الوقاحة في التعبير عن التضامن مع إسرائيل سراً وعلانية في سياق الزمن الجديد الذي تصوغه السعودية والإمارات: الحب لإسرائيل والحرب لليمن. أرأيتم كيف تبدع مصر في تقديم المبادرات لخنق غزة أكثر وأكثر؟ ليس هناك من تداع لغزو إسرائيل أو محاصرتها مثلما يحدث مع سوريا واليمن. ولا يبدو على دول "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" أنها منزعجة من عدوان الجارة والصديقة إسرائيل على مدينة صغيرة فقيرة ومظلومة. وبعض العرب يبتسم في شماتة واضحة ويمصمص شفتيه منتشياً بقدرة إسرائيل على فعل ما لم يستطع أن يفعله بحق حماس وأطفال غزة. لكن ما يطم الوادي على القرى هو نوع آخر من الهبل الفلسطيني الخالص يتمثل في قدرة الحالة السياسية الراهنة على شرذمة الشعب إلى حد أن ما يحدث في كل مدينة أو قرية أو خربة يصبح شأنها الخاص، بينما يواصل باقي الوطن حياته المعتادة. وفي هذا السياق تنتشر الألعاب النارية في كل مكان في الضفة الغربية بسبب حادث استثنائي خارق يتصل بأن طلاب التوجيهي قد نجحوا في الامتحان، وهذا الحدث العادي في العالم كله يتحول في بلادنا بالذات إلى حدث كرنفالي عظيم باعتبار أن "الأولاد" قد أعادوا اكتشاف النار والحروف الهجائية والتفاضل ونظرية النسبية من بين اكتشافات أخرى. المحزن أن هذا حدث "طبيعي" في حياة الأفراد لا يجوز أن يضخم على الأقل في باب الرأفة بثلث الطلبة الذين لم يوفقوا إلى حفظ محتويات المقرر عن ظهر قلب ففشلوا في امتحان تعطيل القدرات العقلية وتحول الإنسان إلى ماكينة غبية تحفظ المعلومات عن ظهر قلب. فقط لأن لدى الناس في بلادي عقدة الغرب والشمال أقول إن أحداثاً من قبيل إنهاء الطالب للتعليم الثانوي لا تستوقف أحداً. وأين العجب في ذلك؟ الطلبة كلهم، إن أرادوا، يمكن أن ينهوا هذا التعليم وأن يلتحقوا بالجامعة ويأخذوا شهادة. أما أن تقصف نيويورك أو باريس بأنواع الموت بينما تعيش سان فرانسيسكو أو ليون حياة البهجة وتقرع الكؤوس بنجاح ابنة أو ابن في الثانوية فهو بلا شك فعل لا يمكن أن يتخيله عاقل في تلك البلاد ولا مجنون.
ثم نفيق في صباح اليوم التالي لنجد الصحف المحلية تمتلئ –نيالها- بالتهاني لتفوق يوسف بحصوله على 84% ونجاح سعاد المبهر بحصولها على 91%. وبالمناسبة يبلغ عدد الطلبة الذين حصلوا على درجات فوق التسعين قربة تسعة آلاف، وهي درجات للأسف لا تعبر عن أكثر من قدرة هؤلاء على استذكار المحتوى المقرر على امتداد عام من ممارسات الحفظ والترداد مثلما كان يحدث في تعليم الكتاتيب.
ترى لو طلبنا من المهنئين والمهنئات أن يدفعوا قيمة التهنئة التي تترواح بين 300 إلى 1000 شيكل مساهمة في شراء الأدوية والمعدات الطبية لدعم غزة التي تقبض على الجمر، هل كانوا سيوافقون؟ الجواب واضح بالطبع، ولكن ذلك جواب يؤشر على الحاجة الماسة إلى العمل على تغيير الوعي العربي والفلسطيني في مناحي السياسة ومغازي الفعل الكفاحي كي لا يظل الفعل السياسي العربي هبات "مجنونة" لا يعرف أحد إلى أين تقودنا: إلى درجة أعلى في السلم، أم إلى إعادة إنتاج للواقع، أم إلى حركة هابطة نحو حضيض جديد؟