تلك هي السياسة الإسرائيليَّة الثابتة تجاه قطاع غزَّة منذ إخلائه من القوَّات العسكريَّة الإسرائيليَّة عام 2005، فهي ترتكز على الاستطلاع بالنَّار وعلى توجيه الرسائل السياسية والسيكولوجيَّة عبر النَّار والذَّخيرة الحيَّة التي تدمِّر وتوقع الضَّحايا وتستطلع إمكانات فصائل المقاومة الفلسطينيَّة هناك وتحجِّمها إنْ استدعى الأمر ذلك عبر الهجمات المحدودة، أو الهجمات الشَّاملة التي هي بالنسبة لإسرائيل أصغر من أنْ توصَف بالحرب، لكنَّها بالنسبة للفلسطينيين من حيث النتائج والوقائع أفظع من أيِّ حرب. هنا لا بأس من الإلماح إلى بعضٍ من السياق التَّاريخي الخاص بعلاقة إسرائيل بقطاع غزَّة منذ أنْ ألقت فيه إسرائيلُ جزءا كبيراً من ديمغرافيا وجسم اللجوء الفلسطيني بعد نكبة عام 48.
من المُؤَكَّدِ أنَّ قطاع غزَّة لم يشكل في يومٍ من الأيَّام ميَّزةً بالنسبة لإسرائيل، بل على العكس من ذلك؛ فقد شكَّل القطاع وبما يحويه من اكتظاظٍ سكَّانيّ في مخيَّمات اللاجئين ونقص في الموارد الاقتصاديَّة وبما مثَّله من بيئةٍ خصبةٍ وحاضنةٍ للمقاومة والعمليات الفدائية، وطيلة سنوات الاحتلال مصدراً دائماً للمعضلات الأمنيَّة والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة بالنِّسبة للسياسة الإسرائيليَّة التي استهدفت وبشكلٍ احترافيّ إدارة كلَّاً من الضفة الغربية والقطاع عبر صيغ الحكم العسكري المباشر والصّريح أو عبر صيغ الحكم الإداري ذات المضمون العسكري بعد توقيع اتفاقية كامب ديفد مع مصر عام 79، وذلك برغم أنَّ القطاع كان يشكِّل مصدراً للعمالة الفلسطينيَّة الرَّخيصة والكثيفة في أسواق العمل الإسرائيليَّة حتى مرحلة اندلاع الانتفاضة الأولى عام 87، وهذا ما كان يعبر عنه القادة الإسرائيليين بصيغ مختلفة وفي مناسباتٍ عديدة في تصريحاتهم ابتداء بموشيه ديَّان ومروراً بكلٍّ من رابين و بيرس وشامير وليس انتهاءً بشارون الذي قرر في نهاية المطاف إخلاء قطاع غزَّة وحصاره بوسائل الجدران والسياج والسيطرة على المعابر، والمُرابطة العسكريَّة الكثيفة على حدوده برَّاً وبحراً مع استمرار السيطرة المطلقة على الأجواء، بانتظار أنْ ينفجر القطاع داخليَّاً بمشاكله وبمعضلاته المزمنة، وهذا ما تحقق في نهاية المطاف عندما حدث الانقسام والاقتتال الفلسطيني وأفضى إلى سيطرة حركة حماس عليه؛ لتصبح هي العنوان الذي تُوَجِّه إليه إسرائيل رسائلها السياسيَّة والسيكولوجيَّة، عبر الحصار والنَّار والإجراءات التي تستهدف إبقاء قطاع غزة تحت السيطرة، وبحيث يشكِّل عنواناً ومدخلاً للفصل السياسي والجيوسياسي والاجتماعي والبنيوي بين الفلسطينيين داخل جغرافيا حدود ما بعد حرب حزيران عام 67 في القطاع والضِّفة الغربيَّة.
حتى عندما غزت إسرائيل القطاع إبًّان العدوان الثلاثي عام 56 ؛ فقد كان واضحاً أنَّها لا تريد البقاء فيه لفترةٍ طويلة، وذلك برغم أنَّ دافيد بن غوريون أعلنَ حينها ومع بداية العدوان ومن على منصة الكنيست وبشكلٍ دعائِيّ مُفعَمٍ بعواطف تمزج الثُّيولوجيا بالمِثُولوجيا – بمعنى مزج التَّاريخ بالأسطورة بالدِّين - عن بداية استئناف مملكة داوود وسليمان الممتدة من النَّاقورة وعبر الجليل والنقب وصولاً إلى عمق سيناء، وبما في ذلك منطقة قطاع غزَّة بطبيعة الحال، إلَّا أنَّ هذه النُّواة للمملكة الأُسطوريَّة لم تستمر في الحقيقة أكثر من ست وثلاثين ساعة حينذاك؛ حيث اضَّطرت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل إلى وقف عدوانها على مصر بفعل الموقف الحازم للاتحاد السوفييتي آنذاك وبفعل الاعتراض الأمريكي كما هو معروف، في حين بقيت القوَّات الإسرائيليَّة لمدَّةٍ تقارب ستَّة أشهر في القطاع قبل أنْ تنسحب منه، ضمن تفاهمات دوليَّة، لتعاود احتلاله عام 67، ولتُخليه في نهاية الأمر من طرَفٍ واحد ودون أيَّ التزامات أو تفاهمات سياسية مع السلطة الفلسطينية – كعنوان رسميٍّ للتفاهمات السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليِّين – أو مع أيِّ جهة أخرى دولية أو إقليمية ذات صلة، وذلك على خلاف ما حصل عام 56 حيث كانت مصر عنواناً لتلك التفاهمات الدولية التي أفضت إلى الانسحاب الإسرائيلي من القطاع وعودة الحكم المصري إليه.
لقد قام أرِئيل شارون بإخلاء القطاع مُتراجعاً عن كثيرٍ من ادِّعاءاته الآيديولوجيَّة والأمنيَّة السَّابقة حول أهميَّته الجُيوسياسية والأمنيَّة وأهمية مستوطناته – الهامشيَّة أصلاً - بالنسبة لإسرائيل، وإذْ ذاك فقد بات واضحاً أنَّ كلَّ تلك الادِّعاءات كانت ذات مضامين دعائية وسياسيَّة داخلية إسرائيلية، وقد جرى استخدامها من قبل اليمين الإسرائيلي لتوظيفها في مضمار التنافس على قيادة المجتمع الإسرائيلي ومجتمع المستوطنين، وفي مضمار إعادة صياغة مبادىء ومعطيات التسوية مع الفلسطينيين. ومنذ ذلك الوقت فقد بات واضحاً أنَّ ادِّعاءات شارون تجاه قطاع غزَّة لم تكن تختلف عن ادِّعاءات بن غوريون، وأنَّ ادعاءات الطبقة الحاكمة اليوم في إسرائيل تجاه القطاع ومواجهة معضلاته والارتدادات التي تفرضها لا تختلف عن تلك الادِّعاءات وإنْ اختلف منطقها الذي يُركِّز الآنْ على الحيلولة دون انفجار القطاع في وجه إسرائيل وحدها دون غيرها؛ لذا فهي تستمر في منهج توجيه الرِّسائل السياسيَّة والسيكولوجيَّة المتنوِّعة إلى القطاع وإلى العناوين التي تسيطر عليه، كما أنَّها تستمر في توجيه هذه الرَّسائل عبر قطاع غزَّة إلى عموم الفلسطينيين، وذلك من خلال السلوك الذي لا يُراعي أيَّ معايير سوى معايير المصلحة والأهداف الإسرائيليَّة النهائية في سياقِ تفريغ القضية الفلسطينيَّة مِمَّا تبَى لها من أبْعاد ومضامين مصيرية ووطنية جامعة تخص عموم أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشَّتات، وأحد وسائلها في ذلك هو استثمار وتوظيف واقع عزل القطاع وفصله – جغرافيَّاً وسياسيَّاً واجتماعيَّاً واقتصاديَّاً – وكجزءٍ مهم من كتلة الديمغرافيا الفلسطينيَّة ومن جسم اللجوء والشتات الفلسطيني كمدخل من مداخل جعل القطاع عنواناً للكيان الفلسطيني شبه الدَّولة، ومدخلاً لأيِّ تسوياتٍ سياسيَّة تستهدف الاستئثار بهضاب الضِّفة الغربيَّة والقدس والأغوار وإقصائها من أيِّ ترتيبات تتصل بتلك التسوية؛ لذا ستستمر إسرائيل في توجيه رسائلها بالذَخيرة الحيَّة إلى عموم الفلسطينيين من خلال القطاع، كما أنَّها ستستمر في سلوك الاستطلاع بالنَّار عبر حدوده وبحره وأجواء القطاع للحيلولة دون أَيِ مَساسٍ بأيٍّ من عناصر معادلة منطق فرض الحقائق السياسيَّة والجغرافيَّة عبر القوَّة المطلقة التَّفوُّق الإسرائيلي.