القانون في الولايات المتحدة الأمريكية يجيز للمواطنين وجماعات الضغط على أشكالها ومراكز البحث أن تتلقى أموالا من حكومات أجنبية لغايات ترويج مصالحهم والتواصل مع صناع القرار الأمريكي، لكنه يفرض على متلقي المال الأجنبي أن يفصح عن ذلك في تقاريره المالية التي تنشر للعامة. ورغم المفارقة المتمثلة في أن الشعب الأمريكي انتخب رئيسا محتالا يرفض حتى الآن الإفصاح عن سجله المالي وملفه الضريبي؛ إلا أن الشعب الأمريكي والشعوب الأخرى يستطيعون الاطلاع على ما تنفقه الحكومات من أموال في محاولة للتأثير على صنع السياسة في الولايات المتحدة والرأي العام الأمريكي.
في قراءة سريعة للمعلومات المتوفرة، والتي كانت مادة لعديد من التقارير الصحافية الأمريكية، يصبح واضحاً أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر يغدقون مراكز أبحاث ومجموعات ضغط ومنظمات غير حكومية بملايين الدولارات سنوياً في إطار سعيهم لتحسين صورتهم في الولايات المتحدة الأمريكية والترويج لسياسات تفاضل مواقفهم وخاصة فيما يتعلق بالمواجهة مع إيران والصراع الخليجي – الخليجي وما يعرف بالحرب على الإرهاب ومكافحة غسيل الأموال. ولتحقيق هذه الغايات، لجأت هذه الدول إلى المؤسسات والمراكز الأكثر يمينية وتطرفاً والأقرب سياسياً إلى إسرائيل، إيمانا منها بأن الطريق إلى النجاح وحماية أنظمتها يمر بالرضى اليهودي الأمريكي اليميني وبالتالي الإسرائيلي، الذي يمكن أن يغسل صورة هذه الدول ويروج لها ولأهميتها لمصالح الولايات المتحدة.
هناك مثلا مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (foundation for Defense of Democracies) التي تحظى بدعم إماراتي في شيطنة قطر والترويج لضرورة المواجهة مع إيران، حتى لو تطلب ذلك حرباً عسكرية طاحنة وتساهم في التقرب الإماراتي من إسرائيل من خلال نسج علاقات مع اليهود الأمريكيين المقربين من صناع القرار والمؤسسة أمثال أديلسون (الذي يمول ويدعم الاستيطان بسخاء ويحارب الحق الفلسطيني في كل مجالات عمله في السياسة والمال والإعلام ويمول منظمة Birthright Israel)) التي تأتي بآلاف اليهود الأمريكيين كل عام إلى إسرائيل وتعمل على تجنيدهم الفكري والمعنوي لصالحها) وتشارلز برونفمان (الذي ترأس الكونغرس اليهودي العالمي لسنوات) وغيرهم.
فيما يخص فلسطين؛ فالمؤسسة يمينية متطرفة وترى العالم بمنظور إسرائيلي يميني متطرف في حالة عداء مع الشعب الفلسطيني، روجت لاعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وتروج الآن لأفكارها الداعية لإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني بشكل يسقط تعريف اللاجئ عن كل من لم يكن حياً إبان النكبة، وترى في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين سبباً رئيسيا في استمرار ما تسميه أكذوبة أو احتيال اللاجئ الفلسطيني.
في المقابل، تساهم قطر في دعم وتمويل مؤسسات ومراكز أبحاث أمريكية مثل مركز بروكينغز للأبحاث (Brookings Institute) الذي يدير قسمه الدولي مارتين إنديك سيء الصيت والسمعة. وهناك أيضا مجموعة ضغط تسمى مركز ليكسنغتون للاستراتيجيات (Lexington Strategies) الذي يعد أحد أذرع الضغط السياسي الداعم لقطر في الولايات المتحدة الأمريكية. بحسب المعلومات التي قدمها المركز للسلطات الفيدرالية حول التمويل الأجنبي الذي تلقاه، فقد ساهمت الأموال القطرية في تبرعات للمؤسسة الصهيونية العالمية (Zionist Organization of America) التي تباهت مؤخراً أن جهودها أفضت إلى وقف بث برنامج وثائقي من إعداد قناة الجزيرة حول عمل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، ومؤسسة "جنودنا يتحدثون" (Our Soldiers Speak) وهي مؤسسة متخصصة في تمويل سفر ولقاءات ضباط من جيش الاحتلال الإسرائيلي للولايات المتحدة الأمريكية بهدف الترويج للجيش الإسرائيلي وتحسين صورته. ومولت الجماعة بالنيابة عن قطر أيضاً شركة بلو دياموندز (Blue Diamonds Inc.) الذي يديرها مايك هاكابي، السياسي المتطرف المقرب من ترامب وصاحب الأجندة المتعصبة ضد فلسطين.
أما المملكة العربية السعودية، فتتشعب مساهماتها وجهودها للتأثير على السياسات الأمريكية من خلال التقارب مع إسرائيل والمنظمات الداعمة لها، ويصل عدد مؤسسات الضغط والتأثير الأمريكية التي تتعاقد معها المؤسسة إلى اثنين وعشرين مؤسسة بحسب بعض التقديرات، بالإضافة إلى لجنة العلاقات العامة السعودية الأمريكية (Saudi American Public Relations Committee) التي أُنشئت في الولايات المتحدة لذات الغرض. في هذا السياق، عملت لجنة العلاقات العامة السعودية الأمريكية برئاسة سلمان الأنصاري على الدعوة للتقارب السعودي الإسرائيلي سبيلاً لتحقيق السلام الإقليمي كما يقول الأنصاري، الذي نجح في ترتيب زيارة علنية لإسرائيل لوفد سعودي برئاسة الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي. وقد عملت مؤسسات صهيونية يمينية مثل مؤسسة دراسات الشرق الأدنى في واشنطن (Washington Institute for Near East Policy) على الترويج للعربية السعودية وولي عهدها، بما في ذلك نشر مقال لشاب سعودي (كما قيل) قبل عام يدعو فيه الأمير محمد بن سلمان للتحالف مع إسرائيل في مواجهة "الخطر الإيراني المماثل للنازية".
هذا غيض من فيض. المعلومات المنشورة في الولايات المتحدة تشير وبوضوح إلى جهود متزايدة وتمويل سخي سعودي إماراتي قطري يهدف إلى التأثير بشكل أكبر على السياسات الأمريكية من البوابة الإسرائيلية وداعميها المتعددين في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا التزاوج الوقح بين المال والسياسة يظهر الوجه النتن والحقيقي للمشهد السياسي العربي الذي وصل به الاهتراء وانعدام الشرعية الشعبية حد شراء حب إسرائيل ومناصريها، بينما تروج ذات الأنظمة باللغة العربية لخطاب قومي وعروبي يدعي مناصرة الحق الفلسطيني في الاستقلال والحرية والمقاومة.
تعول هذه الأنظمة على عدم المساءلة الشعبية أو الإعلامية عربياً، وتعتمد أيضاً على أكذوبة الأخوة العربية المفضوحة الآن لضمان عدم كشف تحالفاتها ودعمها المباشر وغير المباشر للاحتلال تحت شعار "عدم التدخل في الشأن العربي". لكننا في فلسطين، ونحن نواجه أكبر وأشمل تحالف للقضاء على قضيتنا الوطنية وإمكانية تحقيق حقوقنا الوطنية لا يحق لنا تجاهل كل هذه المعلومات والمعطيات وترديد شعارات عن التضامن والدعم العربي؛ لأن في ذلك رياء وإنكارا يصل حد الانفصام. هذه الأنظمة اختارت طريقها وعلينا نحن أن نستفيق ونتوقف عن التصرف كالشاة التي ترى سكين اللحام المقدم على ذبحها وتبتسم له لأنه يحمل باليد الأخرى حفنة من الشعير.
هناك نوافذ كثيرة لبناء تحالفات جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية لا تقوم على زواج المال بالسياسة وإنتاج النتانة الفاقعة بل على أرضية المبادئ والالتزام بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان في مواجهة الشعبوية والتطرف الإيديولوجي لترامب وجماعته. هناك تيار ضخم ومتعاظم التأثير حقوقي مدني أمريكي يضم العديد من الجماعات اليهودية التي تطالب بمحاسبة إسرائيل ومحاصرة سياساتها الإسرائيلية، وهو ما بات يعرف بتيار المقاومة لترامب. بينما تزاوج أنظمة المال الخليجي مصالحها مع مصالح ترامب وإسرائيل، واجب على فلسطين أن تنسج تحالفات جديدة واستراتيجية خاصة بها ومحررة من قيود الأساطير والأكاذيب وتنتصر لحقنا في الحياة والكرامة رغماً عن أنف المال وما يمكن أن يشتريه في واشنطن. ترامب لن يتغير لكن الولايات المتحدة تتغير بفضل سياساته العنصرية والتغيير لصالحنا وليس لصالحهم.