1.
مع انهيار المعنى ينهار الإعجاب الساحق بجمال الوجود، لأن الشيء غير مدرَك، وأصلا لا يحمل معناه في ذاته، بل يأخذه، من وجهة ظاهراتية، حين يخضع لإدراكه البشري فقط. نحن الكائنات الواعية نوزع صفات القبيح والحسن، في النهاية؛ ليس الشيء ما هو موجود، هو بالضرورة ما نراه. الغراب قبيح في تصورنا، هل هو كذلك حقا؟؟ لا أحد يعلم. هل كيم كاردشيان أجمل من أنثى الشامبانزي؟ أية إجابة هي مجرد وهم.
2.
حدثني أبي عن أبيه عن جده عن سلسلة من الأسلاف العابرين مهالك الصحراء على جمر الترحل منذ كذا وكذا؛ قال: أشص٦نت جينات مترعة بالجرح، قديمة الوجود، تنتقل من جسد إلى جسد حتى وصلت إليك من دم مني ودم من طيبة أمك..وقال إن الحزن الذي يقيم مأتمه في مجرى عروقي قضية وراثة، والفرح المطرود من القلب شأن عائلي محض..قلت:كيف علم الأسلاف بحالي قبل وجودي، وكيف تقوم حجة لهذه الرواية الغريبة؟ أشعل سيجارة ونفخ في الهواء وثنى أن انظر..فرأيت البكاء في عيون كثيرة تشبه لون عيني أو على خدود كأنها سمرة خدي، وقلوب قلقة كأنها قطعة من قلبي. ثم أفقت أو ربما بكيت. وأضفت:لماذا ننال من ثريد الحظ هذا النزر الشحيح؟ أشعل سيجارة أخرى ونفخ فرأيت جدا قديما كأنه أخي الذي قربه العنف لعطش الخنجر يقول لي: لا يقوم فينا جرح فينطفئ ولا ينضب لنا بئر فيتفجر به ماء. هكذا نذرتنا الصحراء للرهق من السبل وعلمنا الشقاء قسوة اليد مع حنان القلب. ثم استفقت فبكيت مرة أخرى. وتكلمت في سري بما أخبرني أبي أنه سمعه الأجداد جميعا دون صوت في حيرة سمتي: هذا تكرار رهيب لأحداث عتيقة وأحزان معتقة في جسد حديث هو جسدي، وأن البيولوجيا لا تنفي هذا ولا تكذبه كلية. ثم أغمي علي وكأني خطفت. وتناهت إلى مسامعي ما ظلت تخلقه أنامل أبي في التسعينيات من القرن المنصرم من نشيج نايه الجريح، فضحكت أخيرا بلا بهجة وغنيت بلا طرب، ثم مت وكفنتني زوبعة والتهمت روحي الصحراء.. وكان ما كان من عدم وفناء لاهب الخطو يجلدني وأنا بلا وعي ولا حس في غمرة المفاوز..استفقت أخيرا في العراء الموحش تماما كآدم المطرود من بيت الرب.. وكان أبي نائما ولا أثر لرائحة التدخين ولا برهان على أنه حدثني بكل هذا. فنسبت ما حدث إلى الوهم وظل الرمل تغص به حنجرتي إلى الحين.
3.
الحزن يهزم البيولوجيا.. لست قادرا على إنهاء سيجارتي.. صدري ضاق بكل ما يمكن استنشاقه.. لست قادرا على النوم.. عيناي مسمولتان بأسلاك اليقظة.. ولا على الترحّل كما فعلت دوما.. تقاعدتْ قدماي فجأة..
أشاهد الأشياء وهي تفقد انجذابي إليها..
الحاضر كالغائب..
الأقرب كالأبعد الساحق
ولا شيء يقيني غير هذا الألم ورائحة الشواء في رئتيّ...
4.
لعب الجاز/لعب القصيدة
يقوم الجاز على لعب حر رهيب، تقوم القصيدة العربية على لعب مقيد في الغالب سواء بالعروض أو المعجم أو الخيال. أين نحن من قصيدة الجاز، أقصد، من موسيقاه التي تبني من المتناقضات، ما تبدو كذلك ربما، عزفا يربك إيقاع الوجود بعدما أربك تاريخ الفن. صراحة صرت أضحك حين أرى سخرية الموزون من النثري، سخرية النثري من الموزون.. لا نزال نلعب بالمتشابهات، لا نزال نروض معجما عربيا صاغه الفقه وأثقله الغيب وقتله المعيار، ثم نحسب أنفسنا على شيء. لا يزال الشاعر يحسب نفسه محور العالم، وهو أكبر هامش متغطرس لا يعرف قدره ولا حقيقة كونه عابرا سيخلف، عربيا، نصا عاثرا لن يقاوم تعاقب ريح الفناء والجديد الفادح الذي يشتعل هنا وهناك..
.5
"مخاض الكتابة، الولادة.. "أوصافٌ، لكنّها الآن تثير قرفي، لأني في هذه اللحظة، في هذه الحالة النفسية المهرودة، سأتخيّل كل شاعر أو كاتب دقيقيين. يقولها وقد انتفخ بطنه بالحملِ، وسأذهب بعيدا في الخيال فأراه في المستشفى رجلاه معلقتان وطبيب التوليد يفكّر في طريقة عجيبة لإخراج المولود، والكاتب يتأوّه ويده في يد زوجته وهي تهمس في أذنه: اصبرْ حبيبي اصبرْ سيخرج المولود دون
إعاقاتٍ دائمة يا ربّ.."
.6
من امتلك اللغة امتلك العالم، تحديدا فهمَ العالم، لأن هذا الأخير موجود باللغة، مدْرَك ومعرَّف بها، ولأننا قبل كل شيء حيوانات لغوية بامتياز. اللغة برهان الوعي وآلته أيضا. كل هذا مربك حين ترى العقول الصغيرة تتربّص باللغة فتحوّلها من النسيج الخلاق المختلف إلى رداءة تثير الغثيان...