"مانشيت عَريض على الصّفحة الأولى للصحيفة اليوميّة: (انتِحار الكاتِب الشاب عصمَت عبد الرّحيم)، هكذا ستعرِفونَ بموتي. جُمل مبتورة من شهادات رجالٍ لم أعرفهم، قصيدة رثاءٍ مبتذلة لشاعِرٍ طردني مِن بابِ مكتَبه، ورمى مخطوطَتي الأولى في وجهي، تعليقات عَديدة لجبهة الرّفض الثقافيّة -جَماعة: يَسقط الرّئيس القادِم -، وحديث عَن عدم الاهتِمام بالمبدعين الشّباب، وصَحفي حاول أن يحقق سبقًا صحفيًا على حِساب عُنقي، فأسرعَ إلى حسابي الشّخصيّ على موقع التّواصل الاجتِماعي، ليجَدني قد كتبتُ لمهنّد يونس، وللتونِسي نضال غَريبي، فحاوَل طرحَ جَدل انتِحار الشّعراء والكُتّاب، مستذكرًا الكاتِبة الانكليزية فرجينيا وولف، التي قامَت بملء الحجارة في جيوبها؛ لتغرق نفسها في النّهر، والرّوائي الأمريكي آرنست همينغوي، الذي قتل نَفسه برصاصة في الرأس من بندقيّته الأثيرة، والمسرحي و الكاتب الرّوائي الياباني يوكيو ميشيما، الذي انتحر واضعًا سيفًا طويلًا في بطنه، وغيرهم الكثير، كخليل حاوي، وصفيّة كتّو، ومنير رمزي، راميًا كلّ هذا على الحُكومات، والاحتِكار الثّقافي، والبطالة، وظروف العِيش الكريه، أمّا الصّحفيّ الآخر الذي سيكتب في جريدة مهمّشة، فسيربطُ نفسَ الأشخاص، والأحداث، لكن سيرمي كلّ هذا على جُنون الشّعراء، وأمراضِهم النّفسيّة، وسوداويّتهم المفرطة، وفلسفتهم غير المفهومة للخُلود.
"انتَحَر إلى رحمة الله، أقصِد انتَقل .. أعتذر جدًا"، يتلعثَم مذيعٌ مبتدئ، أرادَ والده -طويلُ الباع في الدّولة- أن يكونَ مذيعًا فكان، "كُن فيَكون"، مَجموعة أصدقاء يَختارونَ بانتقائيّة مفرطة صورَة لي معهم، حوار طَويل، وجولة مارثونيّة على مسجِد يَقبلُ شيخُه الصّلاة عليّ، عاصِفة معارضةٍ وموالاة، لوم شَديد، استغفار، ومواقِف حياديّة، ضجّة ترتفع ليوم أو يومين، وأختَفي تمامًا.
أكتُب الآن وأنا أعلمُ كلّ هذا، لن يهتّم أحدٌ لنوعِ الحبل الذي استخدَمته -هذا شيء مهم-، الحِبال تغيّرت، حتّى أنّني طُفت ثلاثَ محلّات أبحثُ عن حبلٍ متين، حبلٍ لا يتمطّى كأفعى تغيّر جلدها، الحبال بلاستيكيّة جدًا كالمُدن، ولن يهتمّ أحدٌ بآخر وجبة أكلتها، أو آخر صَوت سَمعته، أو آخر امرأة أحببتها، لن يهتمّ أحدٌ بتنظيف بقايا سجائِري من الغرفة الضّيقة، أو تَجميع ملابِسي المتناثِرة، تمامًا كما لن يلتَفتَ أحدٌ لمعالجة أسباب ما قُمت به؛ منعًا لتكرار هذا الفِعل، الجيّد في الأمر أنّني لا أملك ما يستحقّ أن يرثه أحد، وقمتُ بحرق مكتَبتي قَبل قليل.
ذاكِرتي سيّئة، لكنّني أجدني الآن أتذكّر قصّة الفقيد، لليمني عبد الله باوزير، والتي قرأ فيها بطله ثابت يقظان خَبر وفاته في الصّفحة الثقافيّة لصحيفة الشّعلة وهو على قيدِ الحياة: "توفّي إلى رحمة الله الأديب الكَبير ثابت يقظان، وهو مِن الرّواد الأوائِل الذينَ خاضوا غمار المُعترك الأدبي، وله كِتابات جليلة .."، فاتّصل بالصّحيفة، وبعدَ عناءٍ سَمع ثلاثَ قصص عن موتِه، ثمّ عرفَ أنّ عشرات الصّحف الأخرى حذت حذو الشّعلة، فاندلع السّؤال في رأسِه صاخبًا: "لماذا لا نَحتفي بأدبائِنا ومثقفينا إلّا بعدَ وفاتِهم، أكانَ يجب عليهم أن يموتوا؛ كي نعدّد مزاياهُم"، يواصِل اتّصالاتِه لتفنيد خبر وفاتِه، واستقباله لهواتِف المُعزّين: "مَكتب المَرحوم ثابت يقظان؟"، يُجيب: "نَعم هُنا قبره، وأنا المرحوم شخصيًا".
لا أعرفُ ما فائِدة استذكار قصّة كهذه، وفي هذه اللّحظة بالذات، لا يُهم، الآن أكتُبُ رسالتي الأخيرة، سأعلّقها على قدمِ الغُراب –كما يَفعل القُدماء في مسلسَل (Game of Thrones)-، فالحمام الزاجِل لا يَصلح لحمل رسالَة كهذه، وسيكونُ الغراب قادرًا على إيصالها لقلعة مالِك الصّحيفة المُحصّنة.
الآن يَجب عليّ –كما الجَميع- أن أقول سامِحوني، لكنّني لن أقول هذا مطلقًا، ولا أعتقد أنّني أرغب بقول هذا، ولن أقول النّقيض، أو أحمّل أحدًا ذنبَ فعلِتي، أنا مرتاحٌ جدًا؛ لأنّني بعدَ قليل سأنهي مهزَلة الجَسد، وسأضع حدًا للقلم، سرّ المصائِب، وربّما سأخشع كي يُزادَ عُمري على أعمارِ سدنة الثّقافة السبعينيين، فهم الماضي، والحاضِر، والآتي، -هذا تَحريف بتصرّف لأغنية كاظِم الساهِر-.
أنظرُ إلى الساعَة نظرةً أخيرة، يبدو أنّها توقّفت قَبلي، هذا يُعفيني مِن قلقِ السّرعة تحسبًا لشروق الشّمس، أزلتُ (ثُريّة) السّقف، جهّزتُ الحَبل، القِطارات التي تتقاطَع فوقَ جبيني اختَفت، خيطُ الدّخان تلاشى، جاذبيّة الأرض ازدادَت لدرجة أنّني أحسّ بثقلٍ غريب لجسدي، الظروف متواطِئة معي بشكلٍ جيّد، نسمة هواء بارِدة تتسلّل من البابِ الموارب، للّحظات الأخيرة مذاق ٌ خاص!".
الهاتِف يرن، انتَشلني من انتِشاءٍ عميق، أنظر إلى الشّرفة، الشّمس أشرقت، كانَ كابوسًا فظيعًا، هذه لَعنة أو فائِدة أن تقرأ لخليل حاوي، ونيتشه في أوقات متقارِبة، لعنة أن تكونَ عميقًا في التّفاصيل حدّ الانخراط – الله في التّفاصيل، هكذا قال حسين البرغوثي-، أنْ لا تعرفُ شكليّات الأمور وسطحيّتها.
- صَباح الخيرعِصمت، صَحيفة يوميّة تنشر خبرَ انتحارِك !!