السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عن: ما لم يكنه زَكارنة بقلم: يوسف خليفة

2018-07-18 04:25:21 PM
عن: ما لم يكنه زَكارنة
بقلم: يوسف خليفة

برغمِ الكمِّ الكبير من الأعمال الأدبيّة التي تصدر سَنويًا، وعجز القراء والنُّقاد على قراءة جميع الأعمال، وتحليلها؛ للوقوف على عناصر الجمال من عدمه، وبالرغمِ من الاختلاف على تعريف الشعر، هل هو القصيدة العمودية، أم التفعيلة أم النثرية؟، وهذا لا يَعنيني في الواقع، ما يُهمني أن أقرأ نصًّا جميلًا، يُحاكي الواقع والإنسانية، ويُعبر عن تجربةٍ صادقة ورؤية مختلفة، مُتَمَسِكًا بالجَماليات الفنية، وبعيدًا عن قولِ درويش في قصيدة لاعب النرد "من أنا لِأُخيب ظنَّ العدم"، فقد كنتُ محظوظًا بالاطلاع على ديوان (ما لم أكنه) للشاعر أحمد زكارنة، إذ وللوهلة الأولى استوقفني العنوان وأخذتني التساؤلات، ماذا كان الكاتب؟ وماذا لم يكن؟، هل هو كما قال درويش؟.

وبعيدًا عن قول نزار قباني (ليس هناك نظرية للشِعر... كل شاعِر يحمل نظريته معه)، يأخذك التساؤل، ما هي نظرية أحمد زكارنة؟، هل هي التأمل في الأشياء، والوجود والتفاصيل الحياتيّة اليومية؟، هل هي إعادة البحث عن الذات وخفايا الإنسان؟؛ لأن المَنجز الأدبي دائِمًا ما يُعبر عن كينونة الإنسان ومضمونه، فبالرغم من اختلاف تعريف الشيء ونظرة الشاعِر إليه، فقد أسعفني الحظ أو الصدفة، لا أدري، في قراءة هذا النص للغور فيه، بل الخوض فيه بعين الباحث، ونبشهِ بإمعان، وبالرغم من أن هذا الديوان يُعد العمل الأول للشاعر، إلا أنه يَنم عن بدايةٍ طيبة لشاعر مُتبصر في تعريف الأشياء والبحث عن معنى آخر حقيقيّ لها، إذ تُبشر قصائده بِميلادِ رؤية ثقافيّة جديدة، ومتبصّرة.

ديوان (ما لم أكنه) للشاعر والإعلامي أحمد زكارنة، يتكون من 24 مقطوعة، ويقع في (103) صفحة، بقصائد مكثفة، تظهر فيها التساؤلات عن الحياة والوجود، والنزوع إلى الذات، وحيرة الشاعر أناه إذ يقول: "أنا، من أنا هنا؟ ومن أنا هناك؟" ويدخل في تعريف الأشياء، الوقت، الصمت، الحب، الفراغ.. إلخ، بحوارٍ ثَري بالشاعرية والمعنى، وتتجلى في القصائد موسيقى داخلية جميلة وترد القوافي بشكل سَلس، بعيدًا عن التكلف والحشو، وفي كلِّ نصٍ يلامس ذاتك، أناك، وقلبك، فتعتريك الدهشة، لتستَرسل بالقراءة بنَهمٍ دون الرغبة بالتوقف، وبالرغم من ذلك، تستوقفك الكثير من السطور، تتأملها بعين اللذة، وبإصغاء القلب لإيقاعِ الكلمة، ودهشة الصورة، ويظهر بشكلٍ جَلي نضوج الصورة الشعرية لديه واختلافها، والصدق الفني، وتستطيع أن ترى حالة السوداوية التي مر بها الشاعر، وكذلك تعيشها بكل صدقٍ وحيرة وألم، فمثلًا يقول: "هنا... ولسببٍ ما،

أخطأتني الحياة، فقدت نصفَ العمر، نصف البياض."

ويقول في المقطوعة الثالثة: "كل شيءٍ مُهيأ للسقوط، الدرج، الحائط، الحلم، الجسد"، وأنا، وفي آخر نصوص الديوان، يعُنون إحدى المقطوعات بـ (اعتذار)، فيقول: "كلُّ يومٍ نفقدُ شيئًا من أشيائنا الصغيرة، ضحكاتنا البريئة، وصوت الآذان في آحاد الخير".

وكذا نراه يقول في المقطوعة الأخيرة بعنوان (نبوءة): "إن الرؤى تقترح وتقول ثلاثة أقوالٍ ونبوءة"، يطرح فيها العلاقة بين الخرافة والفراغ وبينه، وينهي كتابه بمخرجٍ ثانٍ، بالتساؤل الأكبر، فيقول: "في رحيل المعنى، يكمن السؤال: هل ما زلنا أحياء؟"

ورغم ذكره في المقطوعة (20) في مخرجه الأول: "في الصورةِ أبصرتُ ظلي يأخذ مكاني، يقاسمني درجات اللون، روابط الحواس، ونزيف التجربة"، فيأخذنا بحيرة التيه، بين الوجود وعدمه، إلا أن القارئ يخرج بعد انتهائه من قراءة هذه المجموعة، مأخوذًا بالتساؤلات، عن المعنى والحياة، وبصمتٍ يشدُّ على قلبه، يصغي لتساؤلاته ولتساؤلاتِ أحمد، فيسأل إن كان أحمد هو الموت أم "ابن الأب الإله" كما يقول في مقطوعة لن أموت، أم الأمكنة أم الاحلام أم النبوءة أم الوجود أم الحياة.

بكل هذه الأسئلة تخرج، وتسأل مرة أخرى تُرى ما الذي (لم يكنه أحمد زكارنة) فتعود وتُجيب عن تساؤلاتنا فاتحة الكِتاب، مقولة النَّفَّري

والتي قالت كل شيء واختصرته: "بين النطقِ، والصمت برزخٌ فيه قبرُ العقل، وفيه قبور الأشياء".