الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"كأني بخيطيْ باطل أتشبَّثُ" محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ

2014-12-08 11:26:57 PM
صورة ارشيفية

ضوء في الدَّغْل

عنوانُ المقالِ هو عجز بيت شعريّ "لأبي العلاء المعرِّي" يعبِّر عن أزمة وجود تصف مأزق الإنسان حين يتشبّث بالباطل. مفارقة تجعل حياة كاملةً بلا معنى، وتحملُ صاحبها على كآبة متعبة بسبب الزَّيف الذي يراه على حقيقته، ويرى نفسه غارقا فيه؛ بسبب الحياة التي يعيشها دائما وهو يحاربُ في أعماقه فكرة الغيبوبة النهائية، ينازل سلطةَ الموت الذي يراهُ في كل جهة ويشعر أنه يراقبه من كل زاوية. عبَّر عن هذا كذلك "أمل دنقل" وهو على فراش الموت، أيْ على فراش الحقيقة؛ إذْ صرخ أو همس:"ضدُّ منْ/ومتى القلب في الخفقان اطمأنْ". يحصل هذا تماما عندما يمتلك الإنسان الوعيَ العميق بهذه السخرية التي نسميها العمر، ونمتدحها فندعوها الحياة، ولنقلْ حين يكشف خدعة هذا الوهمِ الذي يلتحف بعباءة اليقين المخرَّقة وهو يزعم أنَّ عورته غير مفضوحة للمارة، للعابرين على جسد يتداعى صوب النومِ السرمديِّ، صوب البياض الجليل.

طيِّب، ما هذي الأوهامُ التي تسيطر على عقولنا ونحن نؤمن بأنها حقيقية ومطلقة؟ لا ريب أنها كثيرة جدا، فلنبدأ مثلا بوهم مركزية الإنسان وأهميته في العالم، خاصة وأننا نعرِّف أنفسنا باعتبارنا سادة المخلوقات، والمتحكِّمين الفعليين في مسرح الأحداث على هذا الكوكب. لكنْ ماذا لو انقرض الجنس البشريّ؟ ما سيحدث؟ هل تستمر الحياة بدوننا؟ هههه أضحك لأنَّ لا شيء سيحدث، ولأنَّ الحياة سترتاح منْ جنوننا، والعالم سيتخلص من التعب الذي سببْناه إذ يكفي أنَّنا ثقبْنا الأوزون، وزيَّنا الطبيعة، ونحن دعاةُ النظافة، بالنفايات والموادِّ القاتلة. في مقابل هذا، ماذا لو انقرضتْ الحشرات التي تنقلُ اللقاح من شجرة إلى شجرة، دون وعي منها، في الأمازون مثلا؟ الإجابة: ستحصل مشكلة بيئية كبيرة. فانظرْ كم أنت عظيم أيّها الهوموسابيان!!!

ماذا عن الحرية؟ هل نحن أحرار بما يكفي؟ نحن أفضل من النملة التي تقضي حياتها وهي تنقل الزاد من الخارج إلى داخل المستعمرة دون أنْ تتوقّف في يوم من الأيام متسائلة عن سبب فعلها لهذا العمل، ورغبتها مثلا في الاستقالة أو الانتقال إلى مهنة أخرى. نحن أفضل في الظاهر فقط، لكنَّنا لا نختلف عنها، ولا عن أيّ كائن آخر ما دمنا مندرجين ضمن نظام مسيطر هو العالم، ضمن قوانينه التي تتحكم بنا، ولسنا أكثر من خدَّام لغايته الكبرى وهي بقاؤه من خلال استمرارنا نحن بالتناسل، لأننا نمثِّل بالنسبة إليه شكلا من أشكال الحياة المتنوعة التي تعطيه كينونته ووجوده. من جهة أخرى هل نحن أحرار أمام بيولوجيتنا؟ أمام الوظائف التي تعتمل وتعمل داخلنا دون أنْ ترجع إلينا أو تُعنى برأينا؟ لا يبدو ذلك متحققا مطلقا. ومع هذا سيبقى نصيب صغير من الاختيار متحقق بالوعي، نعبّر به عن ذواتنا لغة، عن فهمنا لما يحيط بنا فندافع عن حقنا في الحياة والحرية والكرامة، وحتى هذا الجانب في العالم قضى عليه الطغاةُ وروّضوه ليندرج ضمن المصفوفة خاضعا، وإنْ ثار أو انتفض تُفتح له أبواب الديمقراطية المسموح بها من طرف السلطات الجائرة، فترى الشعوب سعيدة جدا بالزيف.

ماذا عن حقوق الإنسان؟ هذه اللافتة الكبيرة، هذا الشعار الذي أنتجناهُ وجعلنا أنفسنا نصدِّقه ونراهُ واقعا معاشا. فمن بين جميع الحيوانات كان الإنسان وحده من سنَّ هذه الحقوق التي ينقلبُ عليها في أيَّة لحظة خدمة لنزعاته الأنانية، أو إشباعا لغرور المحارب فيه. كم إنسانا يموت باسم حقوق الإنسان؟ كم شعوبا مصنَّفة خارج خارطة تلك الحقوق؟ ما عدد الحروب التي خاضها الإنسان ضدَّ أخيه باسم الديمقراطية والحرية والأمن القومي والعالمي؟ لا يبدو يا أصدقائي بأن هنالك حقوقا بل جنونا يمنح الحق لمن يريد، ويقضي على من يريد من البشر باسم حقوق بشر آخرين.

ماذا عن العدل؟ يصرخُ أمل دنقل مرة أخرى في ديوانه"العهد الآتي":

" قلت: فليكن العدلُ في الأرض؛ عين بعين وسن بسن.

قلت: هل يأكل الذئب ذئباً، أو الشاة شاة؟

ولا تضع السيف في عنق اثنين: طفل.. وشيخ مسن.

ورأيتُ ابن آدم يردي ابن آدم، يشعل في

المدن النارَ، يغرسُ خنجرهُ في بطون الحواملِ،

يلقي أصابع أطفاله علفا للخيول، يقص الشفاه

وروداً تزين مائدة النصر.. وهى تئن.

أصبح العدل موتاً، وميزانه البندقية، أبناؤهُ

صلبوا في الميادين، أو شنقوا في زوايا المدن.

قلت: فليكن العدل في الأرض.. لكنه لم يكن.

أصبح العدل ملكاً لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان- الكفن!

ورأى الرب ذلك غير حسنْ!"(أمل دنقل، الأعمال الكاملة. ص:331).