"ذاتَ يومٍ قالت لي أمي: إذا صرتَ جنديًا سوف تغدو جنرالًا، وإذا صرت راهبًا سوف تغدو بابا الفاتيكان، وبدلًا من هذا كلّه صرتُ رسامًا، وأصبحتُ بيكاسو"، من هُنا عليّ أن أبدأ؛ كي يكونَ حجرَ الزاوية لإقامة بنيانِ الفردِ، وكيانه، ومستَقبله، بعدَ ما تكدّس الخريجونَ صفًا طويلًا أطولَ من اللازِم على أبوابِ البطالة، مِن هُنا عليّ أن أبدأ وطلبة الثانويّة العامّة يدخلونَ أفواجًا أفواجًا إلى الجامِعات بلا إرشادٍ حقيقيّ، وبمشاعِر مختلطة بينَ الرّغبة الذاتيّة، ورغبة الأهل، وفرصِ سوق العَمل الشّحيحة.
إنّ لكل منا عالمٌ خاصّ يتشكل في داخِله، وهذا يلغي المفهوم المكرّر (الفشل)، فعندما نُنادي بتشجيع المَواهب والقدرات، وجعلها أساسَ اختيارِ تخصّص الفرد، فإنّنا نحاول تجاوزَ المرحلة الأولى بسلام، لذا سنغضّ الطرفَ عن الأرقام التقيميّة، ونلغي صفة القدسيّة عنها، والتي تَرفع وتهبط من شأن الفَرد، ونوقفَ التّعليم البنكيّ التقليديّ الذي يحكم على الطالب وذكائِه من خلال (العلامة)، التي تعتمد على معلومات متطايرةٍ تحفظ في الذاكرة القصيرة، وتردّد بشكل متتالٍ لحين تفريغها، وذهابِ أغلبها إلى النّسيان، كيف لهذا الجيل القادِم أن يستمرّ بالتأقلم مع أساليب التّدريس القديمة في ظلّ التّطور العلميّ والتّكنولوجيّ، وكيفَ سنطلبُ منه بعدَ هذا مواكَبة العلومِ والآدابِ والفنون، ومجاراتِها، وإلى أبعدِ من هذا سأذهب: كيفَ سنطلبُ منه الثّورة ضدّ الاستبدادِ والمطالبة بالحريّة بعدَ سَنواتٍ من السّلطويّة في التّعليم، وتلقي المعلومة من مصدرها الوحيد –المعلم، مغلّفة، ناصِعة، مزيّنة، ظاهِرها فيه الرّحمة وباطنها مِن قِبَلهِ العذاب!
لا يوجد إنسان فاشل؛ لأنّ القدرات نسبيّة تختلفُ من شخصٍ إلى آخر، هذا مشتركٌ مع مفهوم الذّكاءات المتعدّدة، فلكل منا جانِبٌ منير يجعله متميزًا عن غيره من خلالِه، وجانِب أقلّ نورًا –لا أقولُ مظلمٌ-، أذكُر أيامَ دراسَتي الأولى حينَ شبّه معلّم ما أحدَ زملائي بـ(الحيط)، لن أقول إنّه أصبح فيما بعد مشهورًا، أو ناجحًا، لا أعرف فعلًا ما حلّ به، ربّما يمارس الآن هوايَته التي أحب، وربّما استسلمَ لتشبيه المعلّم!، لذا فإنّ عدم الإيمان بالطالب، وانعِدام التّشجيع والحوافز يجعله يصدّق أوهامًا تشكّلت شبحًا حقيقيًا في مخيّلته، فالمعلم الذي استخدمَ أسلوبَ الإخماد الخاطئ تناسى تمامًا أنّ التّعزيز أول درجات النّجاح، وأنّ الاهتِمام بميول الطالبِ ورغبته أهمّ من محاولة حشو رأسِه بكلّ شيء.
إنّ إخمادَ مفهومِ الإيداعِ وإيقاظَ مفهومِ الإبداعِ يتطلّب تنشئة مدرسيّة صحيحة، تعتَمدُ على اُسلوبٍ مختلف تمامًا يقلب رأس الهرم بشكلٍ تام، فعلينا اعتمادُ الحوار والنّقاش، الاهتمام بالنّهج التّواصلي الذي من شأنِه الدمجُ بين المعلم والمتعلّم، وعلينا أن ننظر للتعليمِ كهوايةٍ وإبداعٍ وفرصٍ عالميّة مستقبليّة، يفتح طرقًا متفرعة من الأفكار، ومسارات من النّجاح والتقدم، وعلينا أيضًا أن يكونَ التّحفيزُ اللّفظيّ والفعليّ خيارَنا الأوّل وقبلَ الأخير، لنعيدَ صياغَة جيلٍ جديد، لا يَعترفُ بالفَشل، ولا يقفُ عند حدودِ المحاولة الأولى، عندها لن يواجِه خريجو المدارسِ صعوبة اختيارِ تخصّصهم الجامعيّ، ولن يقفوا بعدَ ذلكَ حائِرين، محبَطين، مكبّلينَ بالبَطالة، بل سينهضوا أفرادًا وجماعات لممارَسة هواياتِهم، وتحقيقِ أحلامِهم وتطلّعاتِهم.