رام الله- محمود الفطافطة
يُشكل التداخل أو الازدواجية في العمل نتيجة عدم وضوح الصلاحيات والواجبات تعارضاً حاداً قد يؤدي، أحياناً، إلى الصراع الذي غالباً ما تكون نتائجه مضرة، وأبعاده خطيرة على مُجمل البُنى المؤسساتية والمجتمعية كافة. هذا التداخل الذي تتجلى منطلقاته من غياب المسؤوليات من الناحية القانونية أو لغياب اللوائح التنفيذية أو نتيجة لفهم خاطئ لهذه المسؤوليات أو نتيجة لتعديات مؤسسة على أخرى قصداً أو خطأً تعاني منه بعض المؤسسات الفلسطينية لا سيما الرسمية منها.
ومن هذه المؤسسات الأجهزة الأمنية التي تقوم، أحياناً، بتكرار الأعمال والمهمات والتقارير بين أكثر من جهاز أمني أو داخل الجهاز نفسه. هذا السلوك ينجم عن عدم وجود نظام وهيكلية إدارية واضحة تحكم عمل المؤسسة الأمنية، الأمر الذي يسبب عدم التنسيق المسبق أثناء تأدية المهمات، خاصة في حالات استخراج "حسن السلوك"، والاعتقال المتكرر لنفس الشخص من قبل أكثر من جهاز أمني. فغياب اللوائح التنفيذية وقصور بعض المواد في القوانين وعدم فاعلية وتكامل قانون الخدمة في قوى الأمن جعل لكل جهاز حرية التصرف في منح الموافقات الأمنية للمواطنين، ما خلق الازدواجية والتداخل في العمل والتناقض حتى في نتائج هذه الموافقات بين جهاز وآخر.
إرباك وتكرار!
هذه الحالة من التداخل خلقت إرباكاً وتكراراً للعمل نفسه، إضافة لمشاكل أخرى مثل إضاعة الوقت والجهد والمال والصراع، وما لكل ذلك من انعكاس سلبي على المواطن من حيث ثقته بهذه الأجهزة والتعاطي معها. وانطلاقاً من كل ذلك فإن التقرير سيناقش واقع هذا التداخل ومعرفة أسباب إشكالية الازدواجية والتداخل في صلاحيات المؤسسة الأمنية الفلسطينية وسبل حلها، فضلاً عن التأثيرات التي تسبب مثل هذا التداخل.
تؤكد دراسة ماجستير أعدها الباحث إحسان عابدي، مؤخراً، حول التداخل في عمل المؤسسة الأمنية الفلسطينية: المخابرات العامة والأمن الوقائي حالة دراسية، على وجود أسباب كثيرة للتداخل في عمل المؤسسة الأمنية الفلسطينية، أهمها: ضعف نصوص وبنود قانون الخدمة في قوى الأمن، وغياب اللوائح التنفيذية للقوانين التي تعد السبب الرئيس في التداخل والازدواجية في عمل هذه الأجهزة، حيث أن صياغة قوانين بعض الأجهزة ومنها (الوقائي والمخابرات العامة وقانون الخدمة في قوى الأمن) جاءت بصياغة عامة ولا تفصل العمل والصلاحيات المخولة لهم بدقة ودون تداخل، والافتقار إلى وجود قاعدة بيانات مشتركة للمؤسسة الأمنية.
وتبين الدراسة أن العوامل الخارجية الإقليمية والدولية والمحلية تساهم في خلق حالة من الازدواجية والتداخل. ويذكر الباحث في هذا الإطار أنه على الرغم من وضوح الإطار القانوني لعمل الشرطة في ضوء تلك القوانين، فإن قوى الأمن تتعدى على صلاحيات الشرطة المدنية أحياناً. وبالعموم يوضح عابدي أن مصطلح ازدواجية العمل أكثر ما يوجد في المؤسسات الحكومية والرسمية، وأنه يظهر عند تقديم أطروحات للممولين، فـ"نجد أكثر من مؤسسة ترغب في تنفيذ مشاريع ومهام مماثلة دون التفكير المسبق اللازم للوصول إلى تأثير أفضل على الفئات المستهدفة".
تنافس وصراع
وفي دراسة للباحث عزيز كايد، نشرتها الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان في العام 1999، يبين أن المشكلة تكمن في تداخل صلاحيات هذه الأجهزة بسبب عدم وجود قوانين وأنظمة تحدد بوضوح صلاحياتها، وعدم تطبيق ما هو موجود منها، وفي ظل هذا الوضع ترك المجال للأجهزة ذاتها كي تحدد صلاحياتها ضمن مفهوم مسؤوليها كل منهم على حدة، مشيراً إلى أن هذه الأجهزة تعاني من ضعف التنسيق والتعاون فيما بينها، وفضلاً عن ذلك هناك تنافس بينها وصل إلى حد المشاحنات وتطورها إلى صدامات أحياناً. وفي ظل هذا الوضع أخذت الأجهزة الأمنية تتدخل في عمل بعضها البعض، وتتدخل في أعمال بعض الوزارات والمؤسسات الأخرى، بل وصل الأمر إلى حد تدخلها في أعمال النيابة العامة ومصادرة بعض اختصاصاتها وتدخلها في عمل القضاة.
وفي دراسة للائتلاف الفلسطيني من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، بعنوان "صراع الصلاحيات وغياب المسؤوليات"، نشرت في العام 2007، جاء فيها أن المشاكل التي يُعاني منها النظام السياسي الفلسطيني، ومنها الأجهزة الأمنية، تتمثل في التحول من عقلية وممارسات الثورة إلى متطلبات بناء الدولة وما يواجهها من عقبات، ومشكلة التدخل الخارجي لإجراء تغييرات في النظام السياسي والقانون الأساسي بناءً على أولويات خارجية، ومشكلة ازدواجية السلطة والغموض في توزيع الصلاحيات. وتشدد الدراسة على ضرورة مراجعة وتصويب عمل مؤسسات السلطة الفلسطينية، وتطوير الأداء فيها بما يخلق دولة المؤسسات والقانون ويخضع الجميع للمساءلة والمحاسبة.
وفي السياق ذاته يرى د.عزمي الشعيبي في دراسة بعنوان "إصلاح الأمن في فلسطين"، نشرت في 2009 أن ظاهرة تعدد الأجهزة وعدم وضوح صلاحيات كل منها، وغياب قيادة مؤسساتية تشكل مرجعية لها، بالتوافق مع غياب قانون واضح منظم لأعمالها، واستمرار بقاء نفس الأشخاص على قمة هرم كل منها لفترات طويلة، كل ذلك ساهم في تحويل هذه الأجهزة إلى إقطاعيات لمسؤوليها ومركز نفوذ لقادتها، حيث لم يعد واضحاً دورها ومبرر وجودها أمام عدد واسع من المواطنين، مما أفقدها مصداقيتها على ضوء هذه الحقيقة وهدد السلم الاجتماعي في غياب الشعور بالأمن والأمان بالرغم من الكلفة المالية التي كان يدفعها المجتمع لتغطية نفقات هذه الأجهزة.
ويؤكد د. الشعيبي أن إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية في المرحلة الجديدة تتطلب المحافظة على النظام والأمن العام داخل المجتمع الفلسطيني ضمن قواعد تقوم على احترام سيادة القانون والمبادئ الديمقراطية، وهي غاية أساسية يجب السعي لتحقيقها، من خلال تعزيز بنية جهاز الشرطة المدنية كجهاز قوي وفعال، وترشيد بنية الأجهزة الأمنية الفلسطينية الأخرى والاعتماد على فكرة وجود خدمة إلزامية يشكل أفرادها احتياطاً بديلاً.
تطور ولكن!
في دراسة مشتركة لفراس ملحم ومعين البرغوثي حول الإطار القانوني الناظم لقطاع الأمن في فلسطين، نشرت عن جامعة بيرزيت في 2009 ذكرت أنه
من أجل تقييم واقع صلاحيات قوى الأمن الفلسطينية لا بد من التمييز بين فترتين، هما: ما قبل عام 2005، حيث لم يكن ثمة تنظيم لصلاحيات القوى الأمنية من خلال تشريعات. وكانت تحدد صلاحيات القوى الأمنية التي وصل عددها في التسعينيات إلى (17) جهازاً امنياً، بموجب تعليمات تصدر عن قادتها الميدانيين، وهذا خلق تداخلاً في العمل، ونوعاً من التنافس بين تلك القوى لإرضاء المستوى السياسي.
وتضيف الدراسة: "بعد 2005، تم توحيد بعض الأجهزة الأمنية ودمجها، وأن التطور المهم جاء عندما صدر قانون الخدمة في قوى الأمن وقانون المخابرات العامة، ولاحقاً القرار بشأن قانون الأمن الوقائي". وتوضح أنه رغم وجود إدراك أكبر من قبل الأمن لأهمية تداخل الصلاحيات وإسهام بعض القوانين في توضيح صلاحيات كل جهاز على حدة، إلا أن التداخل في الصلاحيات والتنافس بين الأجهزة ما زال قائماً.
من جانب آخر، تؤكد دراسة أعدها الباحث سعيد زيد لصالح "أمان" حول فعالية ومناعة نظام النزاهة في الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية في 2013، أنبعضالأجهزةوالهيئاتالأمنيةمثلالأمنالوطني والاستخباراتالعسكريةوالشرطةوالإدارةالماليةالمركزية وهيئةالإمدادوالتجهيزوغيرها، تفتقر لقانونينظمأعمالها ويحدداختصاصاتها. وتبين الدراسة أنه لايوجدفيالمؤسسةالأمنيةالفلسطينيةإدارةواحدة مختصةبالتقييماتأوالمسوحالأمنية،ويقومبعمليةالمسح أربعةأجهزةأمنيةكلعلىحدة،الأمرالذيأدىأحياناًإلى تتضاربتوصياتهاوتقاريرها،وهذايطرحمسألةمدىالتنسيق وتبادل المعلوماتداخلالمؤسسةالأمنية.
ممارسات تتجاوز القانون!
وتشير إلى أن السلامةالأمنيةغيرمنصوص عليهقانوناً،وغيرمنظموفققواعدتحولدونتأثيرالاعتبارات السياسيةوالشخصيةعلىالتقييم،كمالايوجدجهة أومؤسسةمختصةبإعدادالتقييمات (المسوح)ما يؤديإلىإصدارتقييماتمتعارضةومتناقضةفيبعض الأحيان،كمالاتتوفرمؤسسةتتولىمراجعةالتقييمات للحيلولةدوناستخدامهافيتصفيةحساباتشخصية وسياسية. وتذكر الدراسة أنه صدرقانونالخدمةفيقوىالأمنعام 2005،وحتىتاريخه لميصدرمجلسالوزراءالأنظمةواللوائحاللازمةلتنفيذ القانون،الأمرالذيعطلتنفيذه،وتركهيئةالتنظيم الإدارةتعملوفقالأعرافوالأنظمةالصادرةعنمنظمة التحريرالفلسطينيةقبل العام 1994.
وبخصوص الرقابة يشير الباحث جهاد حرب في ورقة عمل له بعنوان "الرقابة على المؤسسة الأمنية" إلى أنه رغم وضوح الوظائف والمهام التي حددها القانون الأساسي إلا أنه خلق تضارباً في تفسير المرجعية والمسؤولية عن قطاع الأمن في السلطة الفلسطينية. ويبين أنه في الوقت الذي يرى فيه البعض أن المادة 39 تعطي رئيس السلطة الفلسطينية المسؤولية عن قوات الأمن الفلسطينية باعتباره القائد الأعلى لقوى الأمن يرى البعض الآخر أن هذه المادة لا تمنح الرئيس المسؤولية المباشرة عن قوى الأمن، بل إن هذه المادة هي تعبير عن تكامل نص القانون حيث لا بد من أن تقرأ مع أحكام الباب السابع من القانون الأساسي المتعلق بأحكام حالة الطوارئ باعتبار رئيس السلطة هو من يعلن حالة الحرب والسلم.
وفي الإطار ذاته عقد المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات) ورشة عمل في مدينة إسطنبول في 2014، حول إصلاح وتوحيد جهاز قطاع الأمن الفلسطيني، اقترحت الورشة تطوير آليات لتحديد الأولويات لتنفيذ وتطبيق اتفاقية المصالحة، والعمل على تشكيل اللجنة الأمنية العليا وتفعيلها، والحوار حول العقيدة الأمنية للوصول للاتفاق عليها. وأوصت الورشة بتطوير ورقة متخصصة حول التمييز ما بين السياسات الأمنية العامة، والسياسات الأمنية الخاصة بكل جهاز من الأجهزة الأمنية، وورقة لتوصيف العلاقة ما بين الادعاء العام، وقوات الشرطة، والقطاع الأمني، وورقة حول وظيفة الانتخابات ومفهومي الديمقراطية التوافقية والتبادل السلمي للسلطة في الحالة الفلسطينية، وذلك من خلال التعاقد مع خبراء قانونيين، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات الحاصلة على الأرض عند إعداد مسودات قوانين القطاع الأمني.
وبخصوص المصالحة، فإن دراسة بعنوان "نحو إصلاح وتوحيد قطاع الأمن الفلسطيني، نشرها" مسارات مؤخراً، أكدت على أنه يصعب تحقيق مصالحة حقيقية دون بلورة سياسات أمنية فلسطينية توافقية، تؤدي إلى نشوء قيادة موحدة لمؤسسة أمنية خاضعة للسلطة السياسية العليا، وتساعد على بلورة رؤية موحدة لإعادة هيكلة المؤسسة الأمنية مستقبلاً بشكل يتناسب والاحتياجات الأمنية الفلسطينية.
أوامر ودمج
وفي دراسة له بعنوان (علاقة المؤسسة الأمنية الفلسطينية بالمواطن) يقول د. أحمد أبو دية أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وبالرغم من صدور بعض القوانين الفرعية المتعلقة بالخدمة في قوى الأمن والتقاعد لمنتسبي هذه الأجهزة، إضافة إلى قانون المخابرات العامة، لا زالت تعمل بموجب تعليمات وأوامر إدارية صادرة عن الرئيس (باعتباره القائد العام لقوات الثورة). ويرى د. أبو دية أن تحديد الشكل المؤسسي المناسب للمؤسسة الأمنية يتم من خلال دمج الأجهزة الأمنية المتشابهة وتحديد صلاحيات ومرجعية كل منها.
وفي ورقة عمل للعميد جهاد الجيوسي بعنوان "وجهة نظر في شكل ودور قوى الأمن الفلسطينية مستقبلاً" رأى أن التصور المناسب لعمليات الدمج لتطوير أداء قوى الأمن الفلسطينية تتمثل في: دمج جهاز أمن الرئاسة بحرس الرئيس الخاص، دمج القوة البحرية بالقوة التنفيذية لجهاز المخابرات العامة، حل الأمن الخاص وتوزيع منتسبيه، حل الوحدات الخاصة ودمجها بالاستخبارات، واستيعاب جزء منها لاحقاً بالأمن الوطني، دمج دوريات الارتباط العسكري بقوات الأمن الوطني.
ويبين أن العوامل المؤثرة على أداء ومهمات قوى الأمن الفلسطينية تكمن في أمورٍ، منها: إنهاء الانقسام ومعالجة آثار الانقلاب وإعادة الوحدة بين جناحي الوطن، التناغم بين برنامجي الرئاسة والحكومة وبما يسهل عمل وفاعلية قوى الأمن، النأي بالأجهزة الأمنية عن الحزبية والفصائلية وعقلية المحاصصة أو الاستئثار، الانتهاء من عمليات الدمج المدروسة والقائمة على أسس مهنية، التحديد الواضح والمفصل لدور ومهمات الأجهزة الأمنية.
إصلاح في حقل الشوك!
وفي مقال كتبه د.محسن صالح يقول فيه: "إن عملية إصلاح الأجهزة الأمنية هي عملية جوهرية مرتبطة بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وبتحديد أولويات واتجاهات المشروع الوطني، ولا يمكن التعامل معها من خلال بعض الإجراءات والترتيبات الشكلية والتجميلية. ويضيف: "ملف الأجهزة الأمنية هو أعقد من ملفات تشكيل حكومة وحدة وطنية أو إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، لأن معالجته مرتبطة بالرؤية المنهجية للدور الوظيفي لهذه الأجهزة ورسالتها ومحددات عملها وشروط تجنيد عناصرها. كما وهو أمر مرتبط أساسا بالتوافق على أولويات المشروع الوطني، والموقف من اتفاق أوسلو وخريطة الطريق، والعلاقة بـإسرائيل.
وتأسيساً على ما سبق، فإن أبرز المقترحات لحل مشكلة التداخل في عمل المؤسسة الأمنية تتمثل (وفقاً لدراسة عابدي) في: إدماج جهازي المخابرات والوقائي في جهاز واحد، ووضع رئيس واحد له، ويتفرع عنه مدير الأمن الداخلي ومدير الأمن الخارجي، وعلى أن يكون له قانون واحد يحدد المطلوب منهم بشكل دقيق وواضح لمنع التداخل والازدواجية، وتعديل قانون الخدمة في قوى الأمن لعام 2005، بحيث يشمل مواد تحدد عمل المؤسسة الأمنية وصلاحيات كل جهاز وتبعياتها وأدوارها واختصاصاتها، وإقرار لوائح تنفيذية تفصل مواد قانون الخدمة في قوى الأمن لمنع الالتباس والتداخل والازدواجية والتفسيرات الشخصية والاجتهادات، وتعديل قانون المخابرات وإقرار قوانين لجميع الأجهزة تفصل عملها وتحدد صلاحياتها بشكل موسع ودقيق وبدون تداخل مع القوانين الأخرى.