رام الله- محمود الفطافطة
في الوقت الذي يُرفع فيه شعار "لا دولة فلسطينية دون القدس والأغوار" نجد على أرض الواقع ما يُناقض ذلك، فإسرائيل التي تُسابق الزمن في "أسرلة وتهويد" المدينة المقدسة تسارع، كذلك، في التغول بمنطقة الأغوار لتُخرجها نهائياً من أية تسوية مستقبلية، عدا عن نهب "سلة الفلسطينيين الغذائية"، وإقصاء أهم جهة حدودية شرقية لفلسطين مع الأردن.
فإسرائيل تسعى دوماً إلى ربط المنطقتين معاً، حيث أن هناك محاولات حثيثة لربط وضعية القدس داخل إسرائيل ببقاء الأغوار تحت السيطرة الإسرائيلية. ومن الواضح أن الاحتلال لا يُعير أي اهتمام خاص للعامل الأمني في تبريراته لربط القدس مع الأغوار، الأمر الذي يؤكد عدم مصداقية الطرح "الأمني"، بل استخدامه كغطاء للتبرير السياسي. وما يُدلل على ذلك الوثائق الإسرائيلية التي رسمها جنرالات كبار تُفيد بأن استمرار السيطرة الإسرائيلية على منطقة الأغوار لا يمثل حلاً للتهديدات المتوقعة بعد التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين.
استراتيجية الضم والنهب
وفي خضم هذا المشهد، تشهد إسرائيل نقاشاً حول ضرورة الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على منطقة الأغوار في أطار أي تسوية مستقبلية مع الفلسطينيين. هذا النقاش يأتي بعد أن ساد منذ حرب 1967 بين الأوساط السياسية والأمنية موقف موحد حول أهمية الأغوار الاستراتيجية لإسرائيل، وهو الموقف الذي اعتمد على مجموعة من الفرضيات التي حاولت المؤسسة السياسية تحويلها إلى أسسٍ موجهة لعملها. هذه الفرضيات يُجملها الباحث فادي نحاس في التالي: "مستقبل إسرائيل مرهون بتوسيع حدودها الشرقية، الجبهة الشرقية تهدد أمن إسرائيل، لا يوجد شريك لمحادثات سلام ونتوقع حروباً مستقبلية، وغور الأردن خالٍ من السكان العرب".
مثل هذه الفرضيات تم تطبيقها في منطقة الأغوار لا سيما خلال السنوات الأخيرة، حيث يشير تقرير لمؤسسة "بتسيلم" إلى أن إسرائيل، ومنذ احتلالها للضفة، سعت إلى ضم الأغوار فعلياً إلى سيطرتها، وعمدت إلى محاصرة التواجد الفلسطيني وتقييده، من خلال تبني سياسات مختلفة تمنع تطور البلدات الفلسطينية. كما لجأت إلى هدم العديد من القرى البدوية في هذه المنطقة، ومنعت وصول السكان إلى موارد المياه الغنية فيها، وفرضت قيوداً صارمة على حرية حركة الفلسطينيين وتنقلهم. هذه السياسة الإسرائيلية، وفق دراسة نحاس الصادرة عن مركز "مدار"، أدت إلى "تفقير مستمر للأغوار"، إذ كان عدد سكان المنطقة الممتدة من "عين جدي" في الجنوب حتى "بيسان " بين الأعوام 1948 و1967 نحو 320 ألف نسمة، ولكن عندما جاء الاحتلال، انخفض العدد ليصل اليوم إلى ما يقارب 70 ألفاً.
هذه السياسات بدأت بعد شهر واحد من احتلال إسرائيل للضفة، حيث يبين الباحث مأمون الحسيني في دراسة له بعنوان "منطقة الأغوار بين المكانة الاقتصادية ومزاعم الأمن الإسرائيلي" أن إسرائيل اتبعت خطة ممنهجة، تستهدف إقامة المستوطنات، وإفراغ الأغوار من سكانها الفلسطينيين، وإحكام السيطرة على الأرض والموارد تمهيداً لاستيطانها واستثمارها.
تهويد وتشريد!
وتوضح الدراسة أن الاحتلال اتبع سلسلة من الخطوات، بدءاً بنهب أملاك النازحين، وزيادة مساحات ما يسمى "أراضي الدولة" في المنطقة، لتصل إلى 53.4 % من المساحة، أي أربعة أضعاف ما كانت عليه فعلياً قبل 1967، يضاف إليها 45.7% مناطق إطلاق نار عسكرية مغلقة. كما تم إغلاق 20 % كمحميات طبيعية يتداخل ثلثاها مع مناطق إطلاق النار، وبذلك تمكن الاحتلال من السيطرة على 77.5% من أراضي المنطقة، خصصت 12% منها للمستوطنات، من ضمنها جميع الشواطئ الشمالية للبحر الميت.
هذه المستوطنات تتضاعف بسرعة، ففي تقرير لمحافظة طوباس والأغوار الشمالية، يذكر أن إسرائيل أنشأت 36 مستوطنة تعود لفترة السبعينيات، ولا يزيد تعداد قاطنيها عن عشرة آلاف شخص، فيما لا يزيد سكان بعض التجمعات الفلسطينية هناك على 5130 نسمة، ما يعني وجود ثغرة ديمغرافية لصالح الجانب الصهيوني تعود، بالأساس، إلى سياسات الاحتلال التعسفية، ومنع البناء، والحرمان من إمكانات التخطيط التنموي، وحجب الموارد من مياه ومساحات زراعية، ومنع الخدمات من ري وكهرباء، وغيرها مقابل الإغراءات والتسهيلات غير المحدودة المقدمة للمستوطنين.
وفي خضم ذلك كله، فإن المكانة الاقتصادية لمنطقة الأغوار تحتل في أجندة الاحتلال موقعاً مركزياً، وتبدو المنافع التي تجنيها إسرائيل منها مبرراً كافياً لتمسكها بهذه المناطق المتميزة بطقسها وتربتها، حيث تتمتع بدرجة حرارة موسمية تتيح إنتاجاً مبكراً عالي النوعية والقدرة التنافسية لأصناف زراعية عديدة.
لعبة السياسة والأمن!
استحالة التنازل الإسرائيلي عن الأغوار يظهر من خلال تصريحات السياسيين الإسرائيليين. فالأدبيات تبين أنه في تموز1967، أي بعد شهر من الاحتلال الإسرائيلي، اقترح إيغال ألون ما يسمى بـ"مشروع ألون" الذي قام على أساس استمرار السيطرة الإسرائيلية في غور الأردن. وفي تشرين الأول 1995، أعلن إسحق رابين أن الحدود الأمنية لحماية دولة إسرائيل ستكون في غور الأردن. أما في مفاوضات "كامب ديفيد" 2000، فقد وافق أيهود باراك على التخلي عن التواجد الإسرائيلي الدائم في الأغوار. وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ أعلن أرئيل شارون أن إسرائيل ملزمة بمواصلة السيطرة في الغور. أما أيهود أولمرت، فاقترح على "أبو مازن"، حين كان رئيساً للوزراء، خطة لتبادل الأراضي وافق، في إطارها، على انسحاب إسرائيلي من كل غور الأردن في مقابل ضم الكتل الاستيطانية في معاليه أدوميم، وغوش عصيون وأرئيل. وتراجع عن ذلك في العام 2006، وقال إنه يعتزم الإبقاء على الكتل الاستيطانية الثلاث وعلى غور الأردن تحت السيطرة الإسرائيلية.
وفي مقابل هذه المواقف الإسرائيلية فإن الطرف الفلسطيني يُؤكد على أن الأغوار جزء من الدولة الفلسطينية، وأن القيادة الفلسطينية متمسكة بهذا الأمر، وأن "لا دولة فلسطينية دون الأغوار". هذا ما صرح به الرئيس محمود عباس الذي يرفض بقاء أي قوات إسرائيلية على أراضي الدولة الفلسطينية. وهو بذلك يرفض أي عرض لا يشمل انسحاب "إسرائيل" الكامل من غور الأردن، "فمصلحة إسرائيل بالغور ليست أمنية، بل اقتصادية" كما قال. وفي المقابل، فإن نتنياهو يكرر تصريحاته بأن الجيش الإسرائيلي سيحافظ على تواجده في غور الأردن، ضمن أي اتفاق مستقبلي مع الفلسطينيين"، وأن الحدود الإسرائيلية ستمتد على طول نهر الأردن، كما ويُشدد على أن إسرائيل غير مستعدة للتنازل عن هذا "الكنز الاستراتيجي".
وباتت قضية استمرار السيطرة الإسرائيلية على مناطق الأغوار، من الملفات الشائكة التي تهدد بعدم الخروج باتفاق خلال أية مفاوضات، ففي وقت يرى فيه الفلسطينيون أن الأغوار هي الحدود الشرقية لدولتهم المستقبلية، لا ينفكّ قادة دولة الاحتلال التأكيد على رفضهم القاطع التنازل عن تلك الأراضي الواقعة على طول نهر الأردن. وفي الكنيست الإسرائيلي ظهرت وجهتا نظر، الأولى تقودها ميري ريجف من حزب الليكود، التي تقدمت بمشروع قرار يطالب بضم منطقة الأغوار لإسرائيل، والثانية يقودها عضو الكنيست من حزب العمل حيليك بار، الذي تقدّم بمشروع قرار مضاد يرفض الضم. "ضم الأغوار" مشروع قانون إسرائيلي ستكون المصادقة عليه أولى الخطوات الأحادية التي تخبئها "إسرائيل" لتنفيذها في حال انهارت المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وهو السيناريو المحتمل حالياً.
تشويه وتقصير
إلى ذلك، لم تكتف إسرائيل بالسيطرة على الأغوار ورصها بالمستوطنات وطرد السكان الأصليين، بل عملت على تغييب اسمها الحقيقي. فهذه المنطقة تُسمى الأراضي المنخفضة والأراضي السهلية بالأغوار الفلسطينية نسبة إلى الدولة التي تتواجد فيها وهي فلسطين، لكن إسرائيل ورغبة منها في تجاهل كل ما هو فلسطيني، تجاهلت هذه التسمية مفضلة عليها اسم غور الأردن. ومن خلال التسمية الجديدة مسحت إسرائيل عن الخارطة المناطق البرية للخليل وبيت لحم والقدس مسمية إياها بــ"صحراء يهودا" ومنطقة طوباس.
هذه التسمية الإسرائيلية، وفق دراسة للباحث محمد جابر، نشرت في مجلة شؤون فلسطينية، كانت سبباً في الاختلاف في المساحة الكلية للمنطقة، فالمساحة الإجمالية للأغوار الفلسطينية تبلغ نحو 593 كم2 وفق المصادر الفلسطينية، أي حوالي 10.5% من مجمل مساحة الضفة الغربية. فيما أشارت المصادر الإسرائيلية إلى أن المساحة الكلية للغور تصل إلى 1600 كم مربع مشكلة 28.8% من المساحة الكلية للضفة الغربية. ويعود الفرق في المساحات بين المصدرين إلى فصل المصدر الفلسطيني للمناطق البرية للخليل وبيت لحم والقدس وطوباس، فيما دمجت إسرائيل هذه المناطق في ما أسمته بـ"غور الأردن".
وفي حال الحديث عن طبيعة تعامل السلطة الفلسطينية مع الأغوار، فإن مدير البحوث في معهد "ماس" والخبير الاقتصادي د. سمير عبد الله، يشير إلى وجود مستويين لتعامل السلطة مع الأغوار، هما مستوى سياسي وآخر اقتصادي، فعلى الصعيد السياسي، كانت الأغوار دوماً موجودة على أجندة المفاوض الفلسطيني، ورفض الرئيس الراحل ياسر عرفات الطلب الإسرائيلي باستئجارها، ويمكن التأكيد أنها لم تكن غائبة عن التفكير السياسي الفلسطيني. أما على المستوى الاقتصادي، فإن ازدياد اهتمام السلطة الفلسطينية بالأغوار حالياً مقارنة بالأعوام السابقة يعود لأسباب اقتصادية متأزمة تمر بها السلطة. ويوضح عبدالله: "في ظل ضعف بنية الموارد الفلسطينية التي تسببت بها تقسيمات اتفاقية "أوسلو" للأراضي الفلسطينية، والتي أدت لارتفاع أسعار الأراضي، وشح موارد الاستثمار، والتعقيدات الكبيرة التي تخلقها سلطات الاحتلال حتى في المناطق التي من المفترض أنها تابعة للسيطرة الفلسطينية، فإن كل ما سبق يفسر اهتمام السلطة بالأغوار".
في مقابل ذلك نجد معن صوافطة رئيس غرفة تجارة طوباس يذكر أن كل ما تقدمه السلطة للأغوار هو إغاثي وليس تنموي، فالأراضي الزراعية تنحسر باستمرار، والمزارعون يتركون الزراعة لمصلحة البطالة أو قطاع الخدمات، إذ لم تعد الزراعة في الغور مجدية لمزارع يأخذ على عاتقه الصمود في أرضه ضد الاحتلال، والمنافسة ضد المنتجات الإسرائيلية التي تغرق السوق في الوقت ذاته. وفي ضوء ذلك هناك من يرى أن السلطة غير مقصرة إزاء منطقة الأغوار بقدر ما تحدثه إسرائيل من إعاقات كبيرة ودائمة أمام السكان والمزارعين، بحيث تحول إسرائيل إقامة أي مشروع فلسطيني، وأن الاحتلال يمنع البناء، والكهرباء، ولا يسمح بحفر أي آبار جديدة أو حتى إعادة حفر الآبار القديمة، وهذا ما ترفضه إسرائيل حتى قبل توقيع اتفاقية أوسلو.
مفتاح للتنمية أم للصراع؟
وفي السياق ذاته اعتبر تقرير صدر عن البنك الدولي في تشرين الأول 2013 الأغوار "مفتاح التنمية المستدامة للاقتصاد الفلسطيني، منوهاً إلى أن منع إسرائيل للفلسطينيين من الوصول إليها يكبّد الاقتصاد الفلسطيني خسارة تقدر بنحو 3.4 مليارات دولار سنوياً. أما تقرير "بكدار" الأخير فيؤكد أن سيطرة إسرائيل على "سلة غذاء الفلسطينيين" جعلت المنتجات الإسرائيلية تكتسح السوق الفلسطينية، والتي لا مجال لمقاطعتها رسمياً بسبب اتفاقية باريس الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
وفي مقال له بعنوان "الأغوار الفلسطينية في معركة الاستقلال والسيادة" يرى د. عبد المجيد سويلم أن الأغوار الفلسطينية هي خزان الأمن الغذائي الفلسطيني، وهي منطقة فريدة من نوعها على المستوى العالمي من زاوية درجة الحرارة الموسمية في الشتاء والربيع والخريف، ما يتيح إنتاج الأصناف الزراعية المبكّرة عالية القدرة التنافسية، لا سيما التمور التي قد تتحول إلى المنتج الزراعي الأول. ويوضح أن إسرائيل تدرك الأهمية الاقتصادية المباشرة والبعيدة، في السيطرة والتحكم بالأغوار الفلسطينية.
بدوره قال وزير الزراعة السابق المهندس وليد عساف: "هناك ارتفاع في وتيرة تهويد الأغوار من قبل الاحتلال، مشيراً إلى أنه لن يكون هناك حل سياسي أو سلام دون الأغوار. وبين أنه كانت في الأغوار 168 بئراً للمياه، هدم الاحتلال منها 68 بالكامل، وكانت على نهر الأردن عشرات المضخات وقد دمرت بالكامل من أجل منع شعبنا من استغلال الأغوار، عبر حرمانها من مصادر المياه فيها، وهي مياه النهر والمياه الجوفية".
وذكر أن الاحتلال يعمل على تقليص الأراضي الزراعية في الأغوار عبر منحها للمستوطنين أو بناء مستوطنات عليها، منوهاً إلى أن الحرب الجارية في الأغوار هي حرب بقاء وصمود، فالأغوار توجد بها أراضٍ زراعية متاحة حجمها 280 ألف دونم يستغل الفلسطينيون منها فقط 80 ألف دونم، فيما يستغل الاحتلال 200 ألف دونم.
أما النائب د. مصطفى البرغوثي فيصف ما تقوم به إسرائيل في الأغوار بالتطهير العرقي البغيض، وتكرار لما تعرض له الشعب الفلسطيني في نكبته عام ال48، منوهاً إلى أن إسرائيل هدمت خلال السنوات الأربع الأخيرة آلاف البيوت والمرافق وشردت حوالي 5 آلاف مواطن، في محاولة لتهويد منطقة الأغوار ومناطق "ج" بكاملها والتي تشكل 61% من مساحة الضفة الغربية.
من جانبه يؤكد الناشط في مواجهة الجدار والاستيطان حسن بريجية أن ادعاء إسرائيل بأن الأغوار ذات بعد أمني لها لا يتفق مع الحقيقة، بل أن هدفها هو التوسع الاستيطاني والاستثمار الاقتصادي في هذه المنطقة الواسعة جغرافياً والغنية بمواردها ومعادنها وممرها نحو الأردن مواجهة بين الفلسطينيين والاحتلال.
خلاصة القول: سيؤدي استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأغوار حتماً إلى تعاظم المواجهة مع الاحتلال. لن يقبل الفلسطينيون المساومة على مستقبل الأغوار، ولن يقبلوا بأي تسوية تبقي السيطرة الإسرائيلية عليها. الأغوار أرض فلسطينية وما سيطرة إسرائيل عليها إلا نتاج لعامل استعماري تمثله إسرائيل بأبشع وأقبح الصور والسياسات.. مقابل ذلك يتوجب على الفلسطينيين حكومة ومزارعين ومواطنين أن يولوا الأغوار أهمية قصوى من حيث الدعم والزراعة والبقاء والصمود.