كل الكيانات المتحضرة التي تحترم نفسها وتحترم شعوبها، قررت وبصورة حاسمة ونهائية أن يُبنى نظامها السياسي على مبدأ الانتخاب.
وتقاس حضارية أي مجتمع، وأي نظام سياسي، بمدى تقيده بمبدأ الانتخابات ونزاهته في أدائها، وحتى تأجيل الانتخابات أو تبكيرها، فهو خاضع لقانون ملزم وربما لمواد في الدستور، أما عندنا فقد قلبنا المنطق رأسا على عقب، فلا إلزام لإجراء أي انتخابات في موعدها، بل أن القانون الفعال في هذا الأمر هو رؤية القوى النافذة لمصالحها، فإن كانت ضامنة للفوز تدعو للانتخابات وتعمل من أجلها، وإن كان هنالك شك في الفوز، فلا لزوم لانتخابات من أي نوع، وأصحاب هذه النظرية لا يعدمون ذرائع للإقلاع عن فكرة الانتخابات، فهم ينتبهون إلى أن البلاد محتلة، وإن المحتل لا يريد انتخابات أو أنه يعقد إجراء انتخابات وأحيانا يلوذون إلى حجة فلسطينية خالصة بأن هذا الفصيل المتنفذ سيمنعها وبذلك يتكرس انقسام الوطن ويصبح الجمود وتقادم الشرعيات إلى ما لا نهاية هو المخرج من التعقيدات والممانعات.
وعلينا أن نلامس الحقيقة بصراحة أكبر لنقول... أن تفهم عدم إجراء الانتخابات كاستحقاق وطني، هو أبشع أنواع الديكتاتوريات في هذا العصر، ومهما غٌلّف هذا النوع البشع من الديكتاتوريات بأوراق ملونة وحجج مبتكرة إلا أن النتيجة الحتمية لذلك والتخلف السياسي والكياني على نحو يختم مجتمعا يباهي بأنه يمتلك أعلى نسبة تعليم في العالم بختم التخلف السياسي، وعدم الجدارة ببناء كيان عصري اسمه الآن "السلطة" وطموحنا المشروع نصبح دولة.
والانتخابات في أي بلد ومجتمع لا تعني الرئاسية والتشريعية فقط، ولا حتى البلدية والقروية، بل هي نظام متكامل، يبدأ من أصغر جمعية في الوطن حتى أكبر وأوسع مؤسسة بما في ذلك الأحزاب والقوى السياسية، ذلك أن نفوذ القوى السياسية التقليدية في البلد وحق هذه القوى في اتخاذ قرارات مصيرية يحتم عليها أن تستند إلى شرعية شعبية تؤهلها للمشاركة في صنع القرار، ولا يحق لأي قوة سياسية ضئيلة التواجد الشعبي، أن يكون حجمها في صناعة القرار كما لو أنها ذات عمق شعبي فعال.
إن كل المجتمعات في عصرنا وجدت حلولا لهذه المعادلة غير المنطقية إلا نحن فما زلنا نراوح في المكان الذي كنا فيه قبل عقود.
لم يعد هناك من حجة مقنعة لمن ينظر لعدم إجراء الانتخابات، فلقد أجريناها عدة مرات رغم ظروف الاحتلال التي لم تكن يوما مواتية، وجاء العالم كله ليشاهد أعراسنا الديموقراطية التي بها نحصل على مزيد من تعاطف العالم مع إقامة دولتنا المستقلة المتحررة ، حتى في السجون والمعتقلات فإن أخواتنا وأبنائنا هناك يمارسون ديمقراطية تفرز شرعية داخلية لا تبارى رغم القضبان والحراس والإجراءات المميتة.
إن خلاصنا من المآزق الداخلية المتفاقمة، لن يكون إلا حين يمارس الشعب دوره في تقرير سياسات بلده، وهذا ليس متاحا إلا عبر صندوق الاقتراع بحيث يتولى المنتخبون كسر احتكار الصيغة القديمة لصنع القرار أو اللا قرار.
إن الشرعيات القائمة في فلسطين الآن هي شرعيات أمر واقع. وقد تفقد معناها وقوة تأثيرها إذا لم تتجدد عبر صندوق الاقتراع، وهذا ما يجب أن يُحسم وبأقرب فرصة.