دخلت الجزيرة العربية التاريخ من بوابة النفط. يستثنى اليمن بطبيعة الحال من ذلك. ويصعب فعلياً العثور على أية ملامح سياسية في جزيرة العرب الصحراوية قبل القرن العشرين. وحتى الإسلام الذي تقول الرواية الرسمية أنه ولد في الحجاز، سرعان ما غادر إلى غير رجعة باتجاه العراق والشام. وربما أن القصة الطريفة التي تنسب إلى الحسن البصري خير معبر عن ذلك. يقال أن فقيهاً حجازياً قال للحسن: "من عندنا خرج العلم" بمعنى الإسلام بطبيعة الحال، فرد عليه الحسن: "صدقت، ولكنه لم يعد إليكم."
في القرن العشرين منح الاستعمار البريطاني المهيمن لجزيرة العرب أهمية استثنائية لاحتوائها محطات على الطريق إلى الهند، ثم اكتسبت الجزيرة أهمية خاصة بها بعد أن اتضح للإنجليز أنها تعوم على بحار من النفط الذي ترافق اكتشافه مع ازدهار الصناعة التي ستعتمد عليه على نحو شبه مطلق منذ اكتشافه وحتى هذه الساعة.
هكذا دخلت الجزيرة العربية ودولها المصممة على قياس الرغبات والاحتياجات الإنجليزية ميدان السياسية العربية والإقليمية والكونية. ومنذ البداية كان هناك تشكك عميق حتى بالنسبة لحكام المملكة والإمارات النفطية في مشروعية وجود تلك الدول، كما أحست منذ البداية بخطر يتهدد ثرواتها ونفوذها من سكان البلاد الذين سيتحولون تدريجياً إلى شعوب بشكل أو بآخر، ولكن التهديد الأشد كان مصدره دول المشرق وعلى رأسها مصر وسوريا والعراق، ناهيك عن اليمن الموجود في نطاق الجزيرة بالذات.
إذن ولدت تلك البلدان في علاقة عداء لا مفر منها إلا بتغير الأنظمة النفطية ذاتها عن طريق الثورة الداخلية أو الضم الخارجي. لكن هيهات، هيهات، فقد بذلت بريطانيا العجوز الغالي والنفيس لحمايتها من الأخطار، وأصبحت محميات الجزيرة ذاتها مراكز لحياكة المؤامرات ومراكز لإدارة الصراع ضد مصر (خصوصاً مصر الناصرية) وسوريا والعراق واليمن. وهكذا ولدت التحالفات التي شكلت فيها الجزيرة طوال الوقت حليفاً للاستعمار العالمي بينما شكل المشرق العدو الأساس الذي لا بد من مواجهته حتى لو كلف الأمر التحالف مع دولة إسرائيل المقامة على أرض "عزيزة" ومقدسة اسمها فلسطين.
لم يكن ممكناً أبداً الاتجاه نحو تصور يجعل المال النفطي جزءاً من مشروع للبناء الصناعي والعسكري لمواجهة الاستعمار في تكتل عربي كبير وقوي. كان ذلك يعني استنزاف الموارد النفطية وحرمان "أصحابها" من حياة الرفاه والاستهلاك التي يستحقونها. وحتى في الحالات البسيطة جداً مثل حالة حاكم ساذج مثل الشيخ زايد حاكم محميات الإمارات، ظل الإحساس المسيطر هو أن الدول المشرقية تطمع فيما بين يديه من بترودلار. لكنه مثل غيره، اكتشف أيضاً أن بالإمكان استخدام جزء من هذا المال في رشوة نخب مشرقية هنا وهناك بغرض إضعاف التيارات الجذرية التي قد تهدد وجود دولة النفط من أساسها. ولعل إفساد منظمة التحرير وقيادتها التاريخية واحد من الأمثلة البارزة على طريقة استخدام النفط، لكن الأمر تجاوز ذلك إلى نطاق أكثر خطورة من الناحية الاستراتيجية من قبيل دفع العراق بقيادة صدام ( 1980) إلى شن حرب مدمرة طويلة ضد إيران عن طريق رشوته بالمال النفطي وتزيين المغامرة له باعتبارها خطوة على طريق بناء عراق كبير على حساب إيران. وقد كانت النتيجة مثلما نعلم إفقار العراق وصولاً إلى اضطراره إلى مغامرة ضم الكويت، وما ترتب عليها من نتائج وخيمة على العراق والمنطقة.
تواصلت استراتيجية النخب النفطية الموجهة من قبل صناع السياسة والأمن في مراكز الاستعمار العالمي مرتكزة على احتواء "التهديد" المشرقي إن لم يكن بالإمكان اقتلاعه نهائياً. وقد طبقت هذه الاسترايتجية على سبيل المثال في سياق شراء النفوذ من سوريا في لبنان في السبعينيات، مثلما استخدم دائماً في رشوة قطاعات يمنية واستخدامها ضد "الخطر" الاشتراكي الماثل على نحو مرعب في عدن.
لكن الساعة الأمثل دقت بقوة في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد المولود من رحم أفكار المبدع شمعون بيرس، لتلتقطه السمراء أستاذة ستانفود اللامعة كونداليزارايس التي وصلت إلى منصب وزيرة الخارجية بعد أن قضت سنوات رئيسة لمجلس الأمن القومي.
وضعت رايس تصوراً جديداً للشرق الأوسط يخلو من منغصات سوريا والعراق وحزب الله وإيران. ولا بد أننا نذكر الحرب التي شنتها إسرائيل في تموز 2006 في سياق ذلك. لكن حزب الله برهن أن قدرة إسرائيل وقدرة محميات النفط على تنفيذ خطة الولايات المتحدة كانت محدودة بالفعل. وفي ذلك الوقت عبر ايهود أولمرت عن ذلك بالقول: "إن أحداً في العالم كله لا يستطيع أن ينزع سلاح حزب الله." وهكذا انتهت الجولة الساخنة الأولى لتوليد شرق أوسط جديد تقوده إسرائيل ويدور في فلكه عالم النفط، بالفشل الذريع.
لكن المحاولات استمرت دون ملل ولا كلل. وبغض النظر عن "طبيعة" محركات "الربيع" العربي أو أسبابه العميقه، فإن أمريكا وإسرائيل ونخب النفط ركبت موجته فوراً وصولاً إلى أن تصبح إمارة صغيرة هي قطر عرابة لما عرف بثورات الربيع. وقد حققت "الثورات" نجاحاً لا يستهان به، بما في ذلك إسقاط نظام الرئيس معمر القذافي وقتله وسحله، وبلبلة الأوضاع في تونس ومصر والسودان (الفاشل أصلاً) وأخيراً سوريا واليمن.
بدا أن كل شيء يسير على ما يرام باتجاه إنتاج انظمة، أو أوضاع "فوضى خلاقة" تلائم الحلف الاسرائيلي/الخليجي. لكن حزب الله كان موجوداً مرة أخرى. وقد صمدت سوريا بمزيج من تماسك الدولة وتضحيات حزب الله والجيش السوري، والدعم الثابت من إيران الذي تلاه دخول روسيا لردع التدخلات المباشرة لأمريكا وفرنسا ودول أخرى.
غير أن صمود سوريا ثم بزوع أنصار الله عندما انجلى غبار "الربيع" اليمني، أشعر نخب النفط بأنها أصبحت في أوضاع أقل استقراراً مما كانت عليه قبل "الربيع". وهكذا بدأت في صب أموال خرافية في اتجاه سوريا واليمن بغرض تقويض الصمود السوري واليمني حتى لو كلف الأمر الإبادة الشاملة وإعادة البلدين إلى العصور الحجرية.
للأسف قاد ذلك كله إلى تقدم دول النفط إلى مستوى التصريح في العلن بطبيعة تحالفاتها واصطفافاتها في هذا "الزمن الجديد": لا بد من إجهاض أية مشاريع للاستقلال أو التوجه الوحدوي العربي من رحم اليمن وسوريا مهما كلف الأمر. ولذلك فإن إسرائيل غدت حليفاً رئيساً علنياً ليس من داع للتستر على العلاقة معه.
وهكذا خرجت النخب النفطية قصداً، أو بحكم مسيرة الصراع، نهائياً من دائرة العروبة ومصالحها، إلى دائرة التحالف العضوي والجوهري مع الاستعمار العالمي وأدواته وخصوصاً إسرائيل. وللأسف لم يعد هناك أي مكان للأوهام: لا بد من خوض صراع جذري يشمل المحاور كلها من أجل إسقاط الدولة الريعية في جزيرة النفط، وتخليص سكانها العرب من النخب التي تسرق ثروتهم الطبيعية وترهن الجزيرة والمشرق العربي كله لرغبات الاستعمار حتى عندما يصل الأمر إلى مستوى التضحية بأرض صغيرة مقدسة اسمها فلسطين. في هذا السياق يبدو صمود اليمن وانتصاره هو المفتاح لولادة عصر يمني وعربي "سعيد" يلقي عن كاهله حقبة امتدت قرناً من هيمنة النفط ومصالحه على واقع الأمة ومستقبلها على نحو دمر الكثير من الفرص التي كان من الممكن أن تثمر واقعاً عربياً أفضل بما لا يقاس.