إن كانت الحقيقة تدرك من خلال الحواسِّ فعلينا إذن أَن نشكِّك بحواسِّنا، وقدرتها على تلمُّس الحياة.
وإن كان التَّاريخ ما يكتبه القاتل عن الضَّحيَّة، فعلينا أَن نتعلَّم كيف نرسم تاريخنا، وكيف نتقاطع مع خطوط التَّاريخ دون أَن نفقد جوهر كينونتنا: الطَّعم، واللَّون، والرَّائحة.
ثمَّة من لا يفرِّق بين الهزيمة والاستسلام، عن قصد أَو عن غير قصد، ولم يزل مصرَّاً على أَن الواقع أَكبر من قدراتنا، ويحاول خلط الأَوراق كي يبرِّر جريمته في التَّنازل عن كلِّ شيء: مثلاً عن وطن بأكمله مقابل بيت على رأس جبل، أَو عن بصيرة مقابل بصر.
إنَّ أَوجع الهزائم وأَقساها تلك الهزيمة الَّتي تجعلك لا تتعَّرف إلى ملامحك حين تمعن النَّظر إلى نفسك في المرآة، كأَنَّك غريب، وأَعني الهزيمة السيكولوجيَّة، الثَّقافيَّة.
فإن كان بوسع المهزوم عسكريَّاً، أَو سياسيَّاً، أَن يعيد ترتيب أَوراقه، كي يقف على قدميه من جديد، فالمهزوم على الصَّعيد السيكولوجي لا يستطيع ذلك أَبداً، إذ إنَّ الهزيمة تعني التمثُّل لشروط الآخر، وأَحياناً الانصهار فيها.
لقد تجلَّت الهزيمة الثَّقافيَّة العربيَّة مبكِّراً، منذ بدايات القرن العشرين، وربَّما قبل ذلك بكثير، حين أَصبحت الانقلابات الثَّقافيَّة في الوطن العربي انعكاساً لانقلابات اجتماعيَّة أَوروبيَّة بحتة، فلم ينتج المجتمع فلسفته الخاصَّة المرتبطة بالصِّراع مع تركيَّا، أَو بحركة التَّحرُّر من الاستعمار فيما بعد، وبالتالي افتقر المجتمع إلى الطليعة النقدية التي تهتم بالنشاط الفلسفي التفسيري لكل ما يدور على الصعيد المحلِّي، والعالمي، وتنزع إلى التَّفسير الصَّعب، حتَّى يصبح بوسعها أَن تستوعب ما يجري وتفسّره، وقد أَصبح ذلك أَكثر وضوحاً منذ بداية النِّصف الثَّاني للقرن العشرين، مع بداية كتابة قصيدة التَّفعيلة، وقصيدة النثر، وما تلا ذلك وصولاً إلى يومنا هذا.
ثمَّة فرق شاسع بين الفعل وردِّ الفعل، وإذا ما استثنينا بعض التَّجارب الحقيقيَّة الَّتي حاولت أَن تغيِّر اتجاه البوصلة وفشلت لقلِّتها، سنجد أَنَّه من البديهي أَن نصل إلى النَّتائج الَّتي نعايشها الآن في الثَّقافة العربيَّة.
إن غياب أَو تغييب الثَّورة الفلسطينيَّة من الوطن العربي، وما كانت تشكِّله من ضمانة لحالة التَّوازن الإنساني الثَّوري التَّقدمي، وسقوط المعسكر الاشتراكي، وما تبعه من إفلاس للأَحزاب التَّقدميَّة، كلُّ ذلك أَنتج أَنظمة أَسقطت ورقة التُّوت الأَخيرة عن عورتها، وتجلَّت بشاعتها بعد كشف عريها على الملأ، وأَنتج فيما أَنتج قوى ظلاميَّة متحالفة مع السُّلطة الاستبداديَّة تحاول سدَّ الفراغ الَّذي تركته القوى الثَّوريَّة في مجتمع أَقلُّ ما يشعر به هو الظُّلم والفقر والاستبداد.
وإذا ما سلَّمنا بأَنَّ القوى السياسيَّة على مدار التَّاريخ حاولت دائماً أَن توجد حفنة من المثقَّفين المنتفعين الَّذين يبرِّرون بقائها، واستمرارها، أَو حتَّى استيلائها على السُّلطة، سنجد تفسيراً منطقيَّاً لكلِّ الأَمراض الثَّقافيَّة الَّتي تفتك بالوطن العربي.
في ظلِّ الانحطاط السياسي الاجتماعي لا بدَّ إذاً من انتاج ثقافة تليق بهذا المقام، ولا بدَّ من وجود مثقِّف أَو شبه مثقَّف قادر على أَن يؤدي هذا الدَّور مقابل مكاسب شخصيَّة شتَّى، خصوصاً بعد التَّحوُّل السياسي المذكور، حيث وجد الكثير من المثقفين أَنفسهم بلا سند ولا معين، واكتشفوا أَن المسأَلة لم تعد إلاّ بحثاً فرديَّاً عن الخلاص، فتساقط الكثير منهم، واستسلم لشروط الواقع، بل ذهب بعضهم إلى أَكثر من ذلك، إلى انقلاب مطلق، وسقوط في حضن العدوِّ، خصوصاً أَن المرحلة اتَّسمت بخنق كلِّ صوت نقي، وقتل كلِّ شخصيَّة ثقافيَّة تحاول أَن تغيِّر الواقع، بالإقصاء، أَو التَّهميش، أَو الذَّبح، أَو التَّجاهل على أَقلِّ تقدير، والإبعاد عن المنابر الإعلاميَّة الجادَّة تحت حجج وذرائع مختلفة.
الجرس يقود القطيع، الجرس وحده، والقطيع يمضي إلى جهنَّم، كلٌّ في رحلته تلك يفكِّر بنفسه، وبنفسه فقط.
هناك سباق محموم إلى الشُّهرة، والمال، وهناك شروط توضع مقابل ذلك، بعضها يُصرح به مباشرة، وبعضها يُفهم بالتَّلميح.
إن المطَّلع على المشهد الثَّقافي العربي العام يدرك حجم الخراب الَّذي ما زال يلحق بالبنية الثَّقافيَّة، وتأثير ذلك على البنية الاجتماعيَّة، والنَّفسيَّة للمجتمع العربي، إذ إنَّ المنتج الثقافي باستثناء بعض الأَصوات القليلة، مليء بالسُّموم، والمغالطات الفكريَّة، المقصودة، وغير المقصودة، والمثقف، أَو شبه المثقف يبحث عن مجده الشَّخصيِّ مقابل كلِّ شيء، متناسياً دوره المفترض في المجتمع، لذا تراه يخلط المفاهيم، بل يقلبها رأساً على عقب ليبرِّر سقوطه، فمثلاً هناك من يبرِّر علاقته بالسُّلطة السياسيَّة ضارباً المتنبي مثلاً على ذلك، وعلاقته بسيف الدَّولة، متجاهلاً أَن سيف الدَّولة لم يكن عميلاً لقوى خارجيَّة، ولم يكن شريكاً في تنفيذ مخطَّط استعماريٍّ، وأَنَّه كان يمتلك الحدَّ الأَدنى من الوطنيَّة على الأَقلّ.
هناك محاولات دائبة للتبرير، وتغيير تفسير المفاهيم: العدالة، والحرب، والوطنيَّة، والديمقراطيَّة، والإرهاب، والنِّضال التَّحرُّري الخ....
شبه المثقف العربيُّ يتسيَّد الموقف الثَّقافيَّ في الوطن العربيِّ بدعم كامل من السُّلطة السياسيَّة، ويعمل على ذبح المشروع الوطني التحرري، من خلال تغليب الأَنا الفرديَّة على الجمعيَّة، وقلب المفاهيم، وتمرير تفسير جديد مختلف للواقع، وتبرير الاستسلام، وقلب صورة البطل، الخ....
وتساهم السُّلطة السياسيَّة في خلق جيل مجهَّل ليس من خلال دفع شبه المثقف فقط إلى تسيِّد الحالة الثَّقافيَّة، بل أَيضاً من خلال المناهج الدِّراسيَّة وسلطتها الأَمنيَّة عليها، والإعلام، ودور النَّشر الَّتي تحوَّلت إلى دوائر ربح فاحش، حيث يتلقَّى الكثير منها دعماً مباشراً هائلاً من قوى أَمنيَّة مشبوهة مقابل نشر كتب بعينها، عدا عن نشرها لما هبَّ ودبَّ من الكتب المليئة بالأَخطاء، الإملائيَّة، والنَّحوية، والمغالطات، والكذب، بحيث تصبح المرجعيَّات الثَّقافيَّة لجيل بأكمله مرجعيَّات تؤدِّي إلى اتِّجاه بعينه دون سواه.
إن كلَّ كتاب ينشر بهذه المواصفات ما هو إلاّ جريمة حقيقيَّة يجب أَن يحاسب التَّاريخ صاحبها عليها.
مما لا شكَّ فيه أَنَّ المثقَّف الحقيقي، في ظلِّ هذا الواقع الثَّقافي المهزوم يبحث لنفسه عن موطئ قدم فلا يجد، فمنهم من أُصيب بالإحباط، ومنهم من ينتظر، ومنهم من اعتزل، ومنهم من فرض على نفسه إقامة جبريَّة في قوقعة صمَّاء، خصوصاً في ظلِّ عدم وجود قوَّة لاظمة لهذه الكفاءات الحقيقيَّة الَّتي انسحبت من المعركة في الوقت الَّذي كان عليها أَن تحمل عبء المواجهة كي لا يعمَّ الخراب.
اعترف بأَنَّ المسأَلة ليست بهذه البساطة، وأَنَّ المواجهة بحاجة إلى الكثير الكثير من العوامل المفقودة، ولكن إن لم يُحدِث المثقف الحقيقي ثغرة في هذا الجدار فمن يفعل؟ لماذا ننسحب من المعركة ونترك ثقافتنا ليهيمن عليها الطُّغاة؟ ذلك هو السُّؤال المطروح أَمام المثقَّفين الحقيقيِّن للبحث عن طاولة مستديرة تتَّسع لاختلافاتهم من أَجل البداية، البداية الَّتي من شأنها أَن تحدث فرقاً، وتؤسِّس لحالة ثقافيَّة جديدة تشكِّل رافعة للواقع.