لا زلت أهرع الى مشاهدة مقطع العزاء في فيلم "الكيّف" (انتاج 1985) في محاولة مني لمواساة نفسي كلما هزمني موقف ضاحك في ظروف غير ملائمة. يضحك "يحيى الفخراني" بهستيريا كبيرة في بيت عزاء. يبدأ المشهد عادياً، وجوه متجهمة وتفتعل صمتاً طويلاً في محاكاة بشرية لثنائية الموت/الصمت. فجأة يبدأ الرجل بضحكٍ مجنون، لا تنفع معه كل محاولات من حوله لاسكاته، فيتحول المشهد في نهاية الأمر الى ضحك عارم لكل من هم في قاعة العزاء. استسلمت القاعة لاحقاً لضحك "الفخراني"، في مشهد كوميدي عبثيّ يشبهني تماماً في أحيان كثيرة.
في العام 2002، كانت الضفة الغربية مغلقة بالكامل. اجتاحت دبابات الجيش المدن والقرى، وكان لزاماً على طلبة الجامعات اقتناص أي ثغرة تلوح في طوق الحصار المفروض حتى نتمكن من الانتقال الى سكنات الجامعة. غادرنا "قلقيلية" قبل طلوع الفجر مشياً على الاقدام، انتظرتنا سيارة على الشارع "الالتفافي" المحيط بالمدينة، وما ان همّت سيارتنا بالمغادرة حتى طوقتنا الجيبات والمدرعات العسكرية الاسرائيلية. نزلنا من السيارة، وكان الجنود غاضبين، وقفنا تحت المطر ننتظر مصيرنا، فجأة اندفعت مدرعة عسكرية بسرعة نحونا حتى كادت تهرس واحداً من الواقفين، اندفع الشاب الى الخلف وكاد يسقط أرضاً، ثم عدّل من وقفته، وكأن شيئاً لم يكن، لم يبدّ أي منا اعتراضاً على ما حدث، لكن الوجوه انخلعت من الخوف، عندها وجدت في وجوهنا ما يدعو للضحك الكثير، انفلتت عقدة الضحك عندي، اختبأتُ خلف زملائي، وصرت أضحك بشكل مكتوم تماماً.كان صوت الجندي الذي طلب منا العودة الى المنازل مرة اخرى طوق نجاة لوضع قد يتحول في لحظة مجنونة مع الجنود الى ما يشبه المأساوية في ظرف ثوانٍ قليلة.
في طفولتي، حاولت كثيراً ان أعرف سبب انزعاج أبي المتكرر من ضحكنا، نحن اطفاله الصغار، ولم أستطع. كان صوته الناهر الحاسم يأتي سريعاً بعد أي ضحك "بلا سبب" وبالقليل من قلة الأدب، لكن سرعان ما يتحول الامر الى قهقهات طفولية مختنقة أعجز عن وقفها او كبتها لأطول وقت ممكن. إذ كيف تطلب من طفل صغير ان يتوقف عن الضحك، أو كيف تدفع طفلاً بكل ما يحمل من خفة في الروح ان يوقف تلك المتعة الصبيانية الممنوعة بكبسة زر؟ كانت شتيمته الأثيرة التي ترتد اليه وعيّاً وغضباً "يلعن أبوكم" كافية لاسكاتنا لثوانٍ قصيرة، سرعان ما أعلن بعدها عجزي عن وقف هذا الضحك امام الرجل المخيف وخصوصاً في أوقات منع التجوال التي يتحول فيها الى شخص نزق وعصبي من كل شيء.
الضحك حيلة نفسية او منظومة دفاعات نلجأ لها واليها أمام الخوف، أو في حال لم نوفق في حل مشاكلنا او الخروج من أزماتنا. روى لي واحد من الأصدقاء، حول أكثر المواقف طرافةً وسوداوية في حياته، حين جاءه خبر وفاة جده، وكيف صرخت النساء من حوله دفعة واحدة وكأن امر الصراخ هذا كان معداً له مسبقاً، وكيف إنفجر في ضحك لا يتوقف، أمام استغراب واستهجان من حوله، قال لي: كلما أمعن من حول فيي نظرات الاستهجان، كان ثمة شيء ما بداخلي يدفعني للضحك اكثر. ضحك غامض بلا سبب، لكنه قوي وغريزي وجامح. لم يمنعه حزنه وصدمته من ايقاف ضحكه. كان الموقف شبيه بما حدث لي مرة. وصل خبر وفاة أحد قادة فصائل العمل الوطني لصديق لي. كنا نشاهد التلفاز، وجاء الخبر عاجلاً على أحدى القنوات المحلية، قال لي لحظتها بعد صمتٍ ثقيل وموجع: كان بمثابة أبٍ لي، ثم انخرط في بكاء مرير. كنت رفقته وحيداً، لم اكن أعرف ماذا عليّ أن أفعل بالضبط، أنا شخص لا أصلح للمواساة أو التخفيف عن أحد، ولولا أنني طلبت منه اذناً كي أبلغ باقي الأصدقاء، لتحول الموقف بالنسبة لي الى موقف فضائحي بامتياز.
لم أهزم الضحك يوماً، لا أذكر انني خضت معركة معه وانتصرت، شيء ما بداخلي ينتصر له، بل وكلما تعقد الموقف، كنت أشعر بضعف كبير امامه، غالباً ما أجد الأمر مثلما يقول المفكر الفرنسي هنري بيرغسون في كتابه "الضحك" »:يحدث الضحك لدينا في كل مرة نلحظ في كلام او تصرفات شخص ما، افراطاً في النزعة الميكانيكية« نقاوم هذه الميكانيكية بتمرد مسالم وضاحك، لذلك غالباً ما تكون هذه المواقف المفرطة في فقدان السيطرة عليها، مواقفاً شديدة الجدية والحدة، مثلما حدث حين ذهبنا الى استاذ الجامعة لنستعلم امر يتعلق بالامتحان النهائي، خرج الاستاذ من غرفته بقميص مرسل في هيئة فوضوية خارج البنطال، نظر زميلي اليه ولم يتكلم، لم أستطع ان اكتم تلك الضحكة الخجولة التي انطلقت دون وعيّ مني على اندهاش زميلي، فما كان من الاستاذ الا ان استدار وعاد الى مكتبه في وضع يشبه الطرد، وعدنا نقهقه على ما حدث. لا أعلم مالذي قاله الاستاذ بعدها، لكني بت متأكداً أن الحياة بلا حيلة الضحك هذه ستكون أكثر ايلاماً وارعاباً، وخصوصاً انها قد توقفت قديماً عن تزويدنا بأسباب السعادة بأشكالها الطبيعية الممكنة !