الحدث العربي والدولي
بعد انسحاب أمريكا الأحادي من الاتفاق النووي المبرم بين إيران ومجموعة 5+ 1، يتحرك البيت الأبيض لزيادة الضغط على طهران تارة عبر تهديدات بتوجيه ضربات عسكرية لمنشآت نووية، وتارة أخرى عبر فرض عقوبات اقتصادية لم يشهدها أي بلد في التاريخ، حيث أعلن المسؤولون الأمريكيون خلال هذه الفترة عن نيتهم فرض عقوبات اقتصادية ثقيلة كمنع الاستيراد الكامل للنفط الإيراني، وفي الوقت نفسه هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سلسلة تغريدات له على موقع تويتر باستهداف إيران عسكرياً وذلك من أجل دفعها للدخول في مفاوضات مباشرة مع أمريكا للتوصل إلى اتفاق نووي جديد، طلب ترامب تم رفضه من طهران، وحذر المسؤولون السياسيون والعسكريون الإيرانيون عدة مرات من العواقب الخطيرة وغير المؤكدة لأفعال الرئيس الأمريكي، وخاصة منع صادرات النفط الإيرانية، رفض الإيرانيين لطلب ترامب لم يقنع الأخير بل خرج مرة أخرى يهدد ويرعد، معلناً أن لديه القناعة بأن تهديداته ستدفع الإيرانيين كما دفعت الكوريين الى الاتصال به من أجل إجراء مباحثات جديدة، بمعنى آخر استسلام إيران للنقاط الإحدى عشرة التي أعلن عنها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.
ويقول محللون سياسيون: إنّ هذا الاتجاه الذي يسلكه ترامب في التعاطي مع طهران يذكّرنا بنموذج سلوكه في التعاطي مع الأزمة الكورية الشمالية، هذه الأزمة التي كانت ولا تزال من القضايا الحساسة والرئيسية التي تواجهها السياسة الخارجية الأمريكية، والتي فشلت الإدارات الأمريكية السابقة في حلّها، ولكن بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، قامت واشنطن بالضغط على أعضاء مجلس الأمن لفرض عقوبات اقتصادية قاسية على بيونغ يانغ، إضافة إلى ذلك قامت أمريكا بزيادة عديد قواتها الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية (شرق آسيا) كما وشهدت تلك الفترة أشدّ الحروب الكلامية والتهديدات المتكررة لهجوم وقائي نووي أمريكي على كوريا الشمالية. وانتهى هذا الصراع في مايو الماضي، حين التقى ترامب بالزعيم الكوري كيم جونغ أون في سنغافورة، واعتبر ترامب أن الاستراتيجية التهاجمية التي اتبعها دفعت الزعيم الكوري إلى الاستسلام والانصياع للمطالب الأمريكية.
هنا، وإن قمنا بمقارنة سلوك ترامب بين الحالة الكورية الشمالية والإيرانية، نرى أن ترامب متفائل بأن يدفع طهران عبر نفس الاستراتيجية إلى التفاوض معه، لكن ما لا يدركه الرئيس الأمريكي هو الاختلافات الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية والنفسية والدولية بين الحالتين الإيرانية والكورية الشمالية.
إيران.. قوة إقليمية لا تضاهى
إن أحد أهم سمات إيران والتي تختلف فيها عن كوريا الشمالية، هي ثقلها الإقليمي المهم والذي يحسب له ألف حساب، إيران هي القوة الأولى في المنطقة ولها عمق استراتيجي يبدأ من آسيا الوسطى ويصل إلى ساحل البحر الأحمر ومن أفغانستان إلى شواطئ البحر المتوسط ومن بلاد الشام إلى شمال إفريقيا، وخلال العقود الأربعة الماضية وصلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى مرحلة النضج والنمو الضروريين للنفوذ بين الدول الإسلامية والاستعمارية والليبرالية في العالم، وفي هذا السياق أصبحت إيران واحدة من الركائز الأساسية للتحول العالمي بحيث تدرك أمريكا أنها خسرت الكثير في منطقة الشرق الأوسط بفعل الدور المحوري الموحّد الذي لعبته إيران ومحور المقاومة، اليوم، أصبح كلٌّ من العراق وسوريا وأفغانستان واليمن ولبنان مسرحاً يبرز هزيمة الخطط التوسعية الأمريكية وحلفائها الإقليميين مقابل توسّع نفوذ كل من محور المقاومة وكوريا الشمالية في منطقتي الغرب وشرق آسيا.
القدرة الاقتصادية وأوراق الفوز الجيوسياسية
حقيقة أخرى تتميز بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن كوريا الشمالية هي القدرات الاقتصادية والجيوسياسية لكلا البلدين، لقد نجحت طهران خلال العقود الأربعة الماضية، في تحويل اقتصادها من اقتصاد قائم على الاستهلاك بالكامل ويستند إلى عائدات النفط إلى اقتصاد مستقر، مقاوم ومرن ضد الضغوط الخارجية، حيث تعدّ إيران من أقل البلدان تحقيقاً للإيرادات من خلال السوق النفطية مقارنة مع الدول الغنية بالنفط، وفي هذا السياق تظهر الموازنة الإيرانية لعام 2017 وإن قمنا بمقارنتها بموازنة عام 2018، نلاحظ أن حصة عائدات النفط من موارد الموازنة الإيرانية انخفضت من 9.88٪ إلى 8.45٪. ومن ناحية أخرى يبلغ عدد سكان إيران أكثر من 80 مليون نسمة أغلبهم من الفئات العمرية الشابة، ولديها رأس مال طبيعي وبشري ضخم، بالإضافة إلى سوق كبيرة للمنتجات المحلية، وهو موضوع مهم للاستثمار الأجنبي في هذا السوق، ويزيد من رغبة حكومات العالم في إقامة وتوسيع العلاقات التجارية مع طهران. لذلك، ينبغي القول إن اقتصاد إيران لا يقارن بأي حال من الأحوال مع اقتصاد كوريا الشمالية، الأمر الذي يعزّز قدرة إيران على التعامل مع ضغوط ترامب الاقتصادية، وعلى الرغم من ذلك يجب على طهران تقوية ارتباطاتها الاقتصادية مع الاقتصاديات العالمية الأخرى مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي في سبيل تخطي الآثار السلبية للعقوبات الأمريكية.
من ناحية أخرى، تحتل إيران مكانة جيوسياسية مهمة في المنطقة، وإلى جانب قدراتها العسكرية المتقدّمة خاصة في مجال الصواريخ البالستية، لديها القدرة على الرد على التهديدات إذا رأت مصالحها الحيوية الخاصة في خطر، وتُعرف إيران بموقعها الجيوسياسي الفريد كـ "جسر الربط" بين الشرق والغرب، ومن ناحية أخرى تطلّ إيران على مضيق هرمز، ممر "الطاقة العالمية" كما يوصف، وتستطيع من خلاله أن تضرب المصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة كالسعودية، ووفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، يتم تصدير 16.5 إلى 17 مليون برميل يومياً من النفط الخام من منطقة الخليج إلى اليابان وأمريكا وأوروبا والدول الغربية ودول آسيوية أخرى، وكل ذلك يمرّ عبر مضيق هرمز إضافة إلى الكميات الكبيرة من الغاز المسال التي تمرّ أيضاً عبر هذا المضيق الاستراتيجي.
الشروط الدولية
ويعدّ أحد أهم الاختلافات بين إيران وكوريا الشمالية هو المتابعة الدولية لبرنامج ترامب في التعامل مع البلدين، ففي الوقت الذي وقف فيه المجتمع الدولي إلى جانب أمريكا للمطالبة بتسوية سلمية للأزمة النووية الكورية الشمالية وتفكيك بيونغ يانغ لسلاحها النووي، ما دفع الصين وروسيا كونهما الحليفين الكوريين الشماليين الرئيسيين للدخول في المفاوضات، وفي المقابل نرى البيت الأبيض يسعى عبر سياسته الهوجاء إلى زعزعة الاستقرار في إيران التي كانت الأساس لاستقرار المنطقة والعقبة الرئيسية أمام توسع الجماعات الإرهابية خلال الفترة السابقة، هذا الأمر وضع أمريكا ليس فقط بمواجهة المجتمع الدولي، بل أدى إلى عزلة غير مسبوقة للبيت الأبيض، وأتت الحرب التجارية التي يشنّها ترامب على باقي الدول العالمية لتزيد من التوتر والعزلة للبيت الأبيض من قبل القوى العالمية.
المصدر: الوقت