الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أبو شاويش يسقط النقاب عن دول العالم المتحضر في روايته "إيربن هاوس" بقلم: سماح خليفة

2018-07-31 09:18:09 PM
أبو شاويش يسقط النقاب عن دول العالم المتحضر في روايته

 بين الموت والحياة عدة وجوه تلفحها رغبة الخلاص، هي رغبة الخلاص من طوق الاحتلال والقهر والألم وضيق الحال بالعائلة والأهل والواقع الأحمر الدموي، هي الرغبة نفسها للخلاص من وجوه الموت المتعددة وهي الرغبة التي دفعت ببطل الرواية عاصم لأن يفر من حياة محفوفة بالموت إلى موت محفوف بالحياة.

"إيربن هاوس"عنوان يجذبك لوهلة يجعلك تعتقد أن الكاتب سيعتقك من قوقعة الاحتلال والقيادات الفاشلة والخيانات والغدر والأحزاب في غزة، ليأخذك ربما إلى مكان أو شخص أكثر نضارة وحياة حيث الأمن والسكينة، لتجد نفسك في نزل للاجئين في بريطانيا لا يختلف كثيرا عن معاناة أهلنا تحت الاحتلال في الوطن والسجون إلا ربما في الشكل الذي تلبسته تلك المعاناة والمأساة، وهذا ما يتوصل إليه بطل الرواية عندما يكشف أسرار هذا المعتقل الذي يعارض زيف الشعارات التي تنادي بها بريطانيا من حرية وعدل.

ينقل الكاتب بطل الرواية في رحلة سفر شاقة (هجرة) من غزة حيث الموت والقصف والدمار وانقطاع الكهرباء، ليتحول أي مكان تتوفر فيه أدنى سبل العيش إلى مكان تفوح منه رائحة الموت ص12 ، فيتحول الشاب الذي حالفه الحظ بالحياة إلى قائد للانترنت في الليل وقائد للفراش في النهار بسبب البطالة التي تستفحل بالوجود البشري، إلا أن الحوار الذي دار بين عاصم وصديقه إبراهيم حلمي في غزة الكترونيا عبر وسائل الاتصال وتحت ظل المعاناة المستمرة من انقطاع الكهرباء، أراد الكاتب من خلاله أن يوضح أن سبل مقاومة العدو لها عدة أشكال والتي أبسطها الصراخ، نعم الصراخ المجنون بصورة جماعيةـح فهو أراد أن يوصل فكرة المقاومة الجماعية حتى بأضعف السبل؛ وأشار الكاتب إلى معاناة الطلاب الذين تقطعت بهم سبل العودة إلى جامعاتهم، وبين الطلاب الجدد الذين يحاولون المغادرة "القهر عدو حقيقي للإنسان يا صديقي"ص34، "إحنا طلبة جامعات فش معنا دولارات"ص36

 ينتقل البطل في رحلة الخلاص هذه عبر معبر رفح بوابة أهل غزة إلى العالم الخارجي، فيصور معاناة أهل غزة قبل الإعلان عن فتح معبر رفح حيث وجود سماسرة تستثمر في معاناة الناس وحاجتهم الماسة كموسم حصاد، فمثلا يشير الكاتب إلى ذاك الرجل الذي ترك مقهاه وهجر الوسط الثقافي وانشغل بالتهريب عبر الأنفاق بين مصر وغزة حتى أثري في زمن قياسي. كما ويشير الكاتب إلى الإعلام الذي يستغل الأوضاع من جهة والفضائيات التي تعج بتقارير الموت، والإذاعات المحلية بتقارير حول سيرالعمل هناك  والشرطة من جهة أخرى، وخلف هذا المشهد يتربص السياسيون ليبثوا سمومهم وكيل التهم لهذا الطرف أو ذاك وتحميله مسؤوية هذا الجحيم الملتهب أمام البوابة السوداء عند المعبر وكذلك الخطة السياسية التي تمنح البعض تأشيرات خروج فتكون بمثابة هبة سماوية للخلاص من المرض والازدحام حيث آلاف البشر يحتشدون خلف البوابة السوداء ساعات طويلة من الانتظار عبر المعبر ص19، وأما الذين لم يمنحوا تأشيرة خروج معرضون للقنص من رصاصة غادرة ليدخل مصر، تلك التي يتحيز لها الكاتب فيصفها بعاصمة الزمن، عاصمة العالم، عاصمة الله، والقاهرة حيث هي روح الفن والجمال والإبداع، هي الأنثى الوحيدة القادرة على أن تنسيك كل الهموم فبهذا الإعجاب والتحيز بدأ أبو شاويش روايته بها مستندا إلى مقولة نابليون "قل لي من يحكم مصر أقل لك من يحكم العالم"، ثم يتساءل الكاتب إذا كانت القاهرة ابنة مصر تحمل هذه الروح القوية ما الذي آل بها هذا المآل التي هي عليه اليوم؟! تبقى الآراء قيد التجربة الشخصية.

ويشير الكاتب إلى قضية مهمة وهي الذاكرة التي تأبى أن تُمحى من عقل الغزاوي أو الفلسطيني بشكل عام، لدرجة أن الإنسان في غزة قد يحتاج إلى طبيب نفسي ص24 حتى يستطيع أخذ استراحة ولو مؤقتة من الألم والعذاب، فعند عبور عاصم البوابة الأخيرة إلى داخل مصر أخذت تراوده نفس المشاعر التي تلبسته عند خروجه من سجن المحتل ص44 ؛ فالحزن على فراق أهله في غزة التي حولها الاحتلال إلى سجن هو نفس الحزن والمشاعر عند مغادرة رفاقه في السجن. فغزة في نظر الكاتب قد حولها المحتل إلى سجن كبير مصادر من البحر الذي تحول إلى مستنقع هائل من المياه الآسنة غربا، وبين حصار من بنادق المحتل شمالا ومعبر رفح الذي لا يسمح بفتحه إلا نادرا شرقا فلا يسمح بمرور إلا أعداد قليلة من التجار والمرضى الذين يسمح لهم بالسفر عبره لإيصال رسالة كاذبة خبيثة إلى العالم عن هذا الوحش المتربص صاحب القلب الطيب ص 44 حيث الأسلاك التي تمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب تتوسطها من مسافة لأخرى مواقع عسكرية وأبراج مراقبة على أعلى درجة من التسليح، تربص هناك يتجشأ موتا وخرابا لقنص أي عصفور يفكر بالطيران إلى داخل حدود "إسرائيل" حتى بعد تجاوز البوابة يظل الفلسطيني في حالة رعب يتوجه مسرعا نحو السيارة إلى القاهرة تحسبا لأي طارئ. وهذه الذاكرة المثقلة ترافقه حتى عند ركوبه الطائرة، لم يستطع التحرر من مشهد العدوان الأخير على غزة وكيف تحولت السماء إلى قطعة من جهنم تدمر حياة الناس ماديا ونفسيا ص58، ويتذكر كيف أنها لم تكن حرب بل عدوان همجي وظف فيه المحتل فائض قوته العاتية واستعرض بها على كتلة بشرية هائلة تقطن في بقعة جغرافية صغيرة ص59

ورغم ذلك يؤكد الكاتب أن الفلسطيني يتشبث بالحياة رغم تقديمه جسده قربانا للوطن؛ فهم يمارسون الحب على أسرتهم تحت القصف، ثم ينهضون ويقدمون أجسادهم متاريس للحرب كما فعل أبو رامي عند اشتياقه لأم رامي ص61؛ إلى أننا هنا نجد الكاتب يناقض رؤيته عندما يسمح لعصام بطل الرواية ممارسة الجنس مع ريفال التونسية خارج نزل اللاجئين، دون أدنى تأنيب لضمير باستحضار صورة الزوجة والعائلة التي تنتظره.

معاناة ابن غزة مستمرة فيستمر الكاتب بوصف الطريق إلى سيناء من الحدود إلى القاهرة، الخراب بين الجانبين وكأن حربا ضروسا حدثت، هذا إضافة إلى الرعب من قذيفة قد تطال السيارة أو انفجار أمام حافلةص45 فيمرون عن أكثر من 20 حاجز حتى يصلوا قناة السويس حتى يصل إلى ميدان التحرير حيث الحياة تبدو طبيعية لتعيد إلى ذاكرة البطل ما قاله صديقه إبراهيم عن مصر ص48   

ينتقل الكاتب إلى حلم الشباب المتمثل في الهجرة عندما يتابعون الأخبار الكاذبة والوعود الزائفة والتي أسقطت الناس في دائرة اللامبالاة والإحساس العميق باللاجدوى تجاه كل ما يجري ص95 ؛ ليجدوا أنفسهم عند وصولوهم، في أحضان ال"ايربن هاوس" نزل اللاجئين،  ومعاناة اللاجئين فيه الذي قد يستمر أشهر أو سنوات قبل الانتقال إلى سكنهم الحكومي والتي تتفاوت بين من عانى من الاستعمار واستغلال لرأس المال، وعنصرية الغرب، والحرص رغم ذلك على التأكيد على أنه رغم اختلاف الثقافات واللغات والأديان إلا أن الإنسان والرب يمثلان حقائق ثابتة، مما جعل الكاتب يعقد مقارنة بين سجن المحتل في فلسطين ونزل اللاجئين ليجد تشابه كبير ص103.

في "الايربن هاوس" يدرك الكاتب وجود مآسي قد تفوق مآسي ابن غزة عندما يتعرف مثلا على زيمبا الفنان الموسيقي ص119الذي يبدع في إدخال الفرح والسرور في قلوب اللاجئين وأطفالهم رغم مكوثه سنوات في النزل بسبب تبعات مشكلة أدت إلى وفاة اخيه على يد أمير إثر علاقة مثلية. فضلا عن ريفال وكيف أرغموها على الزواج من أحد المتشددين وتعرضها للاغتصاب ص196 ثم بعد ذلك هجرتها ومكوثها في النزل ليتم رميها في الخارج دون أن تجد معينا سوى عاصم، وظروف الحياة القاسية من نظافة وطعام شحيح في الداخل دون مراعاة لوجود أطفال بحاجة لما هو أكثر إنسانية من ذلك، وما أدهش البطل أن بعد كل هذه الرحلة لريفال وزيمبا تبقى رغبة الانتقام تتفوق على عوالم الحب والفن والجمال نحو مسارب الحقد والموت والخراب ص213.

أعتقد أن الكاتب في هذه الرواية لم ينجح في إيصال صورة الفلسطيني أو ابن غزة الحق بل أساء إليه عن غير قصد ربما، بل ونقل صورة الرجل الشرقي السيئة التي تتناقض صورته مع امرأته داخل البيت والمرأة الغريبة عنه خارج بيته، فقد كان شهما مع ريفال واحتواها واحتضنها وساعدها بل وأقام علاقة جنسية معها دون أن يستحضر صورة زوجته أبدا وكل ما دار في خلده أن ما حصل بينهما ليس حب دون أن يستحضر صورة زوجته أو عائلته أو حتى وطنه وهدفه من هذه الرحلة!!  وكذلك خلال رحلته ذاكرته حملت كل الصور باستثناء صورة العائلة وشوقه إليها فكان ذكر العائلة يرد على لسان إبراهيم صديقه.

في نهاية الرحلة يكتشف بطل الرواية عصام بعد ما شهده من عبودية وتسلط إرهابي وظلم وحياة قاسية أشبه بحياة السجن، وكذلك بعد انتحار زيمبا ومعاناة ريفال المصاحبة لها، ومعاناة اللاجئين في داخل النزل،  وعدم قدرته على مشاهدة الظلم والصمت عنه يبدأ بإعلان الثورة على كل القوانين السائدة في العالم أجمع ثم يقرر أن عليه العودة إلى وطنة؛ لأن الموت على ارض الوطن تحت القصف أحب إلى قلبه من حياة الذل خارج الوطن. وهذا يقوده إلى إلغاء إقامته هناك والعودة إلى وطنه مجددا؛ ليوصل للعالم ولكل حالم حقيقة العالم المتحضر، وليؤكد أن الخلاص من هذا الظلم المستشري في بلده لا يمكن أن يكون إلا جماعيا وليس فرديا.

رواية "إيربن هاوس" بمثابة ماء بارد يرشق في وجه كل واهم بالخلاص عن طريق الهجرة من الوطن، ليستفيق على الحقائق الصادمة في دول الغرب، فعلى كل عربي قراءتها.

الرواية لغتها جميلة مستقرة سلسة، تقع في 239 صفحة صادرة عن مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع، ولوحة الغلاف للفنان: فادي ثابت.