منذ طفولتي كنتُ معجباً بالكلمات المتقاطعة، وكانت قمَّة متعتي حين أَتربَّع على عرش اللِّعبة، بعد أَن أَقوم بحلِّها، وأَحياناً، بإصلاح بعض الأَخطاء الَّتي وقعت سهواً على الرُّقعة المظلَّلة بالأَبيض والأَسود، وتعدَّى الأَمر ذلك، فصرتُ أَضع اللِّعبة بنفسي، وأُرسلها للصُّحف، محاولاً أَن أَتحدَّى معرفة من سيحاول حلَّها.
ربَّما كانت المتعة في بداية الأَمر هي تلك المتعة، ثمَّ تطوَّرت إلى ما هو أَبعد من ذلك، إلى نظرة فلسفيَّة بحتة، فنحن هنا نلعب لعبة اللُّغة، لعبة المعاني، والإحالات، فلا شيء في الحقيقة يشبه نفسه تماماً، نحن الَّذين نسقط هذا الشَّبه بطريقة أَو بأُخرى، ونستخرج من المعنى، معنى آخر، ونحيل الشَّيء إلى مثيله.
ثمَّة احتمالات، أَعني لعبة الاحتمالات، ومسارات، لكنَّها في نهاية الأَمر ليست محكومة كما يبدو للبعض بعقليَّة من أَنتج هذه اللِّعبة.
مثلاً: كنتُ أَقوم بحلِّ اللِّعبة ثمَّ أَطَّلع على الحلِّ الَّذي يُنشر في اليوم التَّالي، وأَجد أَحياناً حلولاً في مربَّعات بعينها، مختلفة عن تلك الحلول الَّتي اقترحتها، لكنَّ ذلك لم يكن يعني أَبداً أَنَّ ما اقترحته كحلٍّ كان خاطئاً، فقد تطابقت الحروف عموديَّاً، وأُفقيَّاً، في كلا الحلَّين، وأَجزم أَنَّ هناك عشرات الحلول الأُخرى الَّتي يمكن أَن نطبِّقها وتنجح.
لماذا كلمات متقاطعة؟
لأَنَّنا الآن بالذَّات بأَمسِّ الحاجة إلى المعاني الأُخرى، والحلول الأُخرى، والتَّفكير بطريقة أُخرى، وطرح الأُمور بشكل آخر، لم يعد من المنطقيِّ الحُكم على صحَّة الحلول بمنطق العقل القديم، الجامد، الَّذي يسير عكس التَّاريخ، لم يعد الحلُّ أَبداً هو الحلُّ الوحيد القابع في رأس المؤلِّف، ثمَّة عشرات الحلول الَّتي يمكن لنا أَن نضعها، ويمكن لها أَن تكون صحيحة أَيضاً.
في المتاهة، أَيَّة متاهة، هناك أَكثر من حلٍّ، وجميعها حلول ستؤدِّي بك إلى التحرُّر من المتاهة، لن يسأَلك أَحدٌ أَيَّ طريق سلكت، لأَنَّ الهدف هو خروجك على قيد الحياة، حتَّى لو تأخَّرتَ، ولو كان هناك مسلك واحد وحيد، ليس ثمَّة سواه، فهناك حلٌّ آخر، قد لا يراه من أَنتج المتاهة، وهو حلٌّ مرتبط بالأَبعاد، فيزيائيَّاً، ورياضيَّاً، أَي معرفيَّاً.
ثمَّة طرح فيزيائيٌّ يعجبني كثيراً في هذا النَّحو:
لو قدِّر لك أَن تحتكَّ بقوم لا يرون إلاّ بعدين اثنين، على المستوى الدِّيكارتي، يعيشون فوق سطح الأَرض، يرون يميناً، ويساراً، وأَماماً، وخلفاً، ولا يرون البعد العمودي على الأَرض، وكان بوسعك أَنت أَن تراه، وتعيشه، فلن يروا منك إلاّ بعدين اثنين، وحين يقرِّرون سجنك لذنب ما اقترفته، سيرسمون لك مربَّعاً على الأَرض، بباب وحيد مغلق، وسيسجنونك فيه، ولن يكون عليك آنذاك للخروج من ذلك السِّجن، وبابه مغلق، والمفتاح مع السجَّان، إلا أَن تخطو من فوق الخطِّ، وتخرج، سيفتقدونك، ولا يجدونك، وستبدو بالنِّسبة لهم ساحراً لأَنَّك خرجتَ من سجن محكم الإغلاق، دون مفتاح.
تلك هي لعبة الكلمات المتقاطعة، هي لعبة الأَبعاد، وهي لعبة الحياة أَيضاً، كيف نفسِّر الحياة!
لماذا كلمات متقاطعة؟
لأَنَّنا بحاجة لأَن نرى الأُمور كلَّها بعين أُخرى، ثاقبة، وذكيَّة، وعميقة، جدُّ عميقة، إذ إنَّ الأَمر يجب أَن يتعدَّى السَّذاجة والسَّطحيَّة الَّتي كثيراً ما نقيِّم الأُمور على أَساسها، إلى سبر أَغوار الواقع، نحن باختصار شديد بحاجة إلى التَّفكير، إلى نبذ كسل العقل الَّذي تعوَّدنا عليه لسنوات طويلة، حيث نعتقد أَنَّنا نفكِّر، وفي حقيقة الأَمر، نحن لا نفكِّر، نقوم بالعمل، ثمَّ نبدأُ بتفسير تبعاته، دون أَن ندرك الأَسباب الَّتي أَدَّت إلى النَّتائج.
نحن حتَّى اللَّحظة مجرَّد ردود أَفعال....وعلينا باعتقادي لكي ننتصر، أَن نتعلَّم كيف نقرأُ المربَّعات، وكيف يصبح بوسعنا إنتاجها، كيف نكوِّن وعياً مختلفاً، على طريقتنا نحن، لا على طريقة الغزاة.