قدمت الجماهير الفلسطينية على اختلاف انتماءاتها الفكرية وتشعباتها الحزبية، العديد من التجارب المجتمعية المبدعة والأساليب النضالية الخلاقة منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة بل وقبل ذلك بسنوات عديدة، وكان من بين هذه التجارب هو تجربة العمل التطوعي في فلسطين من شرقها الى غربها ومن جنوبها الى شمالها، إلى درجة ان أصبح هناك جذورا عميقة للعمل التطوعي تترافق والتاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، وكان هناك علاقة طردية ما بين اشتداد الأزمات التي يعيشها الشعب الفلسطيني وارتفاع نسبة عطاؤه على الصعيد التطوعي بكافة أشكاله، كتعبير جماهيري بدأ بشكل عفوي وأصبح له منظميه وكوادره ونشطاؤه الاجتماعيين البارزين في مجال العمل النضالي، يدل على التماسك المجتمعي والاستعداد بكل لحظة لتقديم العون من أجل الصمود والثبات في وجه الازمات والعواصف السياسية التي تعصف بهذا الشعب من جهة والصمود بوجه المحتل من جهة اخرى، فأصبح العمل التطوعي أحد اهم معايير الانتماء الوطني بل وعلى أساسه يتم تقييم الفرد لقبوله في صفوف الاحزاب والفصائل الفلسطينية المختلفة.
تعددت أشكال العمل التطوعي حتى طالت مختلف المجالات التي من شأنها ان تعكس التماسك المجتمعي والتعاضد الشعبي، ومنها أشكالا اتخذت تركيبا بسيطا واخرى معقدة فمن قطف الزيتون وتنظيف الطرق وتقليم الاشجار الى الالتحاق بصفوف الثورة والانخراط فيها بل والقيام ببناء نواة مؤسسات الدولة المرتقبة، وكانت الأسس التي يتم عليها تحديد الحاجة للعمل هي أسس جماهيرية خالصة صادقة نابعة من الحاجة المجتمعية الفعلية، ويكون التنسيق بين النشطاء هدفه تلبية الحاجة الجماهيرية ليس أكثر، الى ان اصبح هناك تنافس بين الفصائل الفلسطينية المتعددة في هذا المجال، فأصبح هناك سباق فعال بين لجان وأطر هذه الفصائل بهدف استقطاب الجماهير لصفوفها واقناعها ببرامجها النضالية للالتفاف حولها حيث شكل العمل التطوعي علاقة مباشرة ما بين الفصائل والجماهير على أساسه يتم أيضا تقييم هذا الفصيل وتمييزه عن آخر، وبقيت الحاجة المجتمعية الفعلية هي الاساس الذي يحدد طبيعة العمل التطوعي المستهدف بل وتوقيته في العديد من الاحيان، فشكل العمل التطوعي في فلسطين علاقة متكاملة ما بين تقييم الفرد وتقييم الفصائل الوطنية.
في كل المراحل التي مر بها العمل التطوعي في فلسطين كان يتخذ شكلا تنظيميا معينا للحفاظ عليه، ومن بين هذه الاشكال تحديد ساعات عمل تطوعي معينة لطلبة الجامعات كشرط أساسي للتخرج، وكثيرا ما سمعت من العديد من الطلبة الذين عايشوا الانتفاضة الأولى ان هناك العديد من الطلبة قد تجاوزا الساعات المطلوبة وذلك نابع من انتماءهم الفعلي للمحيط ولم يتم استخدام ساعات العمل فقط كشرط للتخرج، وهذا عكس ما يحدث حاليا.
بقي العمل التطوعي يتقدم في فلسطين الى ان تدخلت المؤسسات غير الحكومية وقررت قيادة العمل التطوعي وإدارته في سبيل الحفاظ عليه كشكل من اشكال التماسك المجتمعي تحديدا بعد اتفاق أوسلو ودخول الشعب الفلسطيني في مرحلة مساومة جديدة تستهدف كافة بناه الاجتماعية والتنظيمية بل والثقافية والوطنية، وفعلا قد نجحت هذه المؤسسات بالبداية في قيادة العمل التطوعي وكان اهم الأسباب التي ساعدت على نجاحها هو ان فلسفة العمل التطوعي كانت لا زالت حية في عقول وأذهان الشباب الفلسطيني وكان هناك تجارب ابداعية مع هذه المؤسسات في قيادة وتوجيه العمل التطوعي، ذلك لأنها ايضا كانت تعتمد على الحوار المباشر مع الشباب الفلسطيني في تحديد الاحتياجات للعمل التطوعي.
على مر السنوات اصبحت هذه المؤسسات أحد أهم أسباب فشل وتراجع العمل التطوعي في فلسطين، إذ انها تحولت من مؤسسات قيادية الى مؤسسات تنفيذية تقوم فقط بتنفيذ المشاريع التي تتلقاها من مموليها تحت شعار ان هؤلاء الممولين هم من المتعاطفين والمؤيدين للشعب الفلسطيني، وأصبحت العلاقة ما بين المؤسسات والشباب علاقة استخدامية ليس أكثر الهدف من وراءها تنفيذ المشاريع وتلقي الدعم، فأصبح الممول الاجنبي يحدد احتياجاتنا المجتمعية وطبيعة الانشطة التي يجب تنفيذها والمناطق المستهدفة شريطة ان تكون هذه المناطق ضمن الأراضي التي أحتلت عام 1967، وأصبحت مؤسساتنا الغير حكومية تنفذ هذه الأنشطة عن طريق الشباب الفلسطيني، بل ووصلت بهم الجرأة الى نعت هذا الجيل في كثير من المرات بانه جيل غير جدي او جيل لا يقدم ما هو مطلوب منه على الصعيد المجتمعي، وتبدأ سلسلة المقارنة ما بين هذا الجيل والاجيال السابقة، وتستخدم هذه المؤسسات الغير حكومية كافة التعابير السيئة بكل معنى الكلمة لإثبات ان جيل الشباب بحاجة الى تثقيف أكثر ورفع وعي أكثر لكي ترفع مشاريعها الى الممولين وتحصل على الاموال متناسية ان فلسفة عملها كمؤسسات أهلية هو احد اهم الأسباب الرئيسية لتراجع الهمم الشبابية.
لا تقوم هذه المؤسسات بفحص الاحتياجات المجتمعية من خلال الحوار مع الشباب، بل تكتفي بتحديد الاحتياجات من خلف مكاتبها وبتنسيق مغلق مع مموليهم، وفي حال طلب منهم من قبل الممول اجراء حوار مع الشباب لتحديد احتياجات معينة يكون هذا الحوار شكلي ليس أكثر تعتمد فيه المؤسسات الأهلية على التنظير وليس الحوار، الى درجة ان الممول نفسه قد فقد ثقته بهذه المؤسسات واصبح منذ سنوات يطلب منهم قوائم بأسماء القائمين على الانشطة المختلفة الى ان وصلت به الجرأة لطلب صور لكل نشاط، وهنا اعتقد من خلال تجربتي المتواضعة انه لا يوجد هناك مؤسسة فلسطينية ترتهن الى التمويل الخارجي لا تقوم بتصوير كافة أنشطتها وقوائم أسماءها وترسلها الى مموليها كإثبات بانها قامت بالعمل المكلفة به، لنقول بكل أسف ان من حصد جذور وتاريخ وبذور تجربة العمل التطوعي في فلسطين هو من يقوم الآن بضرب هذا العمل بما ينسجم واجندته، وما ضرب العمل التطوعي الا ضربا لأحد اهم معايير الانتماء الوطني.
لا يهم هذه المؤسسات ان كانت أنشطتهم مكررة أو لا، بل حتى لا يعنيها التنسيق فيما بينها، ليسود نوع من التنافس غير المجدي بين هذه المؤسسات ركضا وراء تلقي الدعم أكثر وأكثر، لتدخل جيلا بأكمله في علاقة عدم ثقة بينه وبينها وبالتالي بجدوى العمل المجتمعي بما ان هذه المؤسسات تطرح نفسها كراعي وحامي للعمل المجتمعي.
هنا ينبغي علينا نحن جيل الشباب ان نجد آليات عمل مجدية لنعيد الاعتبار لفلسفة العمل التطوعي وجدواه وذلك من خلال تكثيف المبادرات الشبابية التي ترتكز الى الحاجات المجتمعية الفعلية ورفض احتواء هذه المبادرات من قبل المؤسسات الأهلية وتحويلها الى مشاريع ممولة، كما انه علينا ان نعيد الثقة بأنفسنا كشباب قادرين على قيادة العمل المجتمعي دون رعاية أو وصاية من قبل مؤسسات قامت باستخدامنا كثيرا من المرات للحفاظ على ميزانيات خاصة بها، كما ينبغي علينا ان نعزز ثقتنا بأنفسنا وهذا يعني ان نبدأ بالعمل ومطالعة التجارب السابقة والاستفادة منها، اذ ان المجتمع هو مسؤولية عماده ونحن يجب ان نكون ذاك العماد القوي الواعي، كما ينبغي علينا ان لا نيأس اذ ان النجاح يكمن في استمرار المحاولة حتى الوصول الى النجاح، وأخيرا وليس آخرا ينبغي علينا ان نكثف جهودنا لخلق موروث ننقله لأجيال بعدنا، وان لا نتحول الى استغلاليين في أي مرحلة من المراحل، بل يكفينا ان نكون بناة مستقبل أفضل في ظل واقع مرير.