كنت بطريق العودة من البنك الوطني في شارع الأرسال الى سيارتي التي اركنها بالعادة في الساحة المقابلة للمقاطعة طمعا في القليل من المشي الى وسط البلد لقضاء بعض الأمور عندما تقتضي الحاجة لذلك، وهي فرصة للتعرف الى بعض التغيرات الإجتماعية والإقتصادية في البلد.
عشرات الصبية والشبيبة وكبار السن يسيرون امامي وجهتهم المقاطعة حيث لفت انتباهي كم الباصات في الساحة عندما ركنت سيارتي قبل حوالي الساعة. وتخيل لي حينها ان حدثا ما على المنارة. لأعرف لاحقا ان وزارة الأسرى تنظم وقفة احتجاجية هناك تضامنا مع الأسرى الفلسطينيين في سجون الإحتلال. وان الباصات حملت ذوي المعتقلين من مدن واتجاهات مختلفة لوقفة إحتجاجية نظمتها وزارة شئون الأسرى تضامنا مع المعتقلين الفلسطينيين في منارة رام الله.
حمل معظم المحتجين اعلام فتح والعلم الفلسطيني، يلوحون بهم ويلعبون. وبعضهم يلوح بالعصي لوحدها فيما اتخذ اخرون من العلم الفلسطيني لعبة له يرمية على السيارات المتحركة امامهم فيسقط بعدها ارضا، ويمسح اخر زجاج سيارة مارة من جانبه ويتركه ليقع ارضا.
توجهت الى احدى المرشدات وكانت تسير ورائهم وتتحدث بالهاتف. لم تعرني اي انتباه، فذهبت مباشرة الى الصبية بعد ان التقطت علميين من على الأرض وضميري وتاريخي يصرخان من الألم. توجهت الى الصبية قائلة" هل تعلمون كم من الشهداء سقطوا دفاعا عن العلم الفلسطيني ؟ هل تعلمون كم من الشهداء اعدموا على اعمدة الكهرباء وهم يرفعون العلم؟ او وهم يحاولون انزاله تحت ارهاب بندقية جندي مسكون بكراهيتك لأنك فلسطيني؟ هل تعرفون ما معنى وقيمة علمك الذي بين يديك؟
لم نكن نستورده من الصين بقروش، ولم يكن يوزع علينا بالمجان في احتفال سياسي هنا وهناك، ولم يكن يباع في المحلات. لا يا ولدي، كنا ننسجه من الصوف ليلا في العتمة وبالسر دون علم احد حتى من يعيش معنا بالبيت في الكثير من الأحيان. كانت امهاتنا تخيطه للمناسبات المهمة سرا. وننقله سرا مخبأَ في ملابسنا واجسادنا. كان ممنوعا علينا استخدام الوان العلم الأحمر والأخضر والأبيض والأسود في رسوماتنا لأنها دلالات العلم الفلسطيني. عشرات بل مئات الشباب اعتقلت لأنها تحمل العلم الفلسطيني، او الوان العلم الفلسطيني، او لأنها دهنت جدار بيتها او عامود الكهرباء بالوان العلم.
راسم عبد الجواد اعتقل مرات ومرات لأنه لوًن عامود الكهرباء امام محله بشارع باريس في طولكرم العام 1976 بالوان العلم الفلسطيني، غيبته السجون سنوات وسنوات. كان راسم يتفنن في عمل القلادات والميداليات وغيرها يدويا بالوان العلم الفلسطيني. ومن اجل شراء قماش لحياكة العلم الفلسطيني لأية مناسبة وطنية، كنا نشتري كل لون او لونين من محل تجاري، ونشتري الآخر من محل ثان بعيد عن الأول لضمان السرية.
في العام 1981، طبع طلاب مجلس طلبة جامعة بيت لحم على بلايز بيضاء شعارات بالأخضر والأحمر والأسود. اي " مجموعة الألوان المكونة للعلم الفلسطيني".
اعتقل الجيش الإسرائيلي اعضاء مجلس الطلبة لمسئوليتهم عن طباعة البلايز بالوان العلم. واودعهم السجن، تولى الدفاع عنهم المحامي عبد عسلي والذي في دفاعه طالب القاضي بمنع بيع البطيخ لأنه يحمل الوان العلم الفلسطيني بما ان الألوان المكونة للعلم الفلسطيني ممنوع استخدامها في اي عمل وتؤدي بصاحبها الى السجن.
كانت سناسل البيوت الحضن الدافىء للعلم الفلسطيني بعد انتهاء المظاهرات والمواجهات مع المحتل. هو علم واحد ليس اكثر يحمله متظاهر ظافر به. وهو مستهدف و عرضة للإغتيالاو الإعتقال على يد قناص اثناء المواجهات.
كم من شهيد وكم من جريح سقط بفعل حمل العلم الفلسطيني، وفي سبيل اعلائه عامود كهرباء؟
في سنوات الإنتفاضة الأولى، دفعت نشوة الإنتصارات على المحتل وتحديه. دفعت الأمهات والجدات الى نسج الجرازي لأولادهن باستخدام الوان العلم الفلسطيني. وكثيرا ما اوقف الجنود الأطفال وحققوا معهم كيف يلبسون الوان العلم. وكثيرا ما تمت مداهمة البيوت من افراد الجيش لآعتقال بلوزة بالوان العلم.
في صيف العام 1988، أثناء زيارتي واطفالي لزوجي ووالدهم" تيسير عاروري " بسجن جنيد قرب نابلس، والقابع في السجن برهن الإبعاد عن الوطن مع 24 مناضل اخر من رفاقه المناضلين، وقعت ابنتي نتاشا ارضا وهي تتسلق اسيجة السجن، ونزفت من اكثر من مكان في يديها وارجلها. ولدى دخولنا لغرفة التفتيش الشخصي، اصرت المجندة " وكانت من حركة السلام الآن وتبدي بعض التضامن معنا" . اصرت ان تحضر ممرضا لمعالجة نتاشا. بخروج المجندة من الغرفة واذ بابني فارس ذو السنوات الست يخاطبني قائلا مخرجا طرف علم فلسطيني من جيبه" شوفي شو جبت معي مشان احبسك بالسجن عند بابا ". اعطني العلم بسرعة رح تودينا بداهية. ورغم اصراره وقبضته على جيبه مخبأَ العلم، مددت يدي بسرعة عنيفة الى جيبه سحبت العلم واخفيته في جسم طفلتي ناديا، حيث كانت فوطة ناديا مخبأنا السحري لتمرير الرسائل لتيسير و للسجناء بعضاً من احتياجاتهم.
هذا هو العلم الذي عرفناه وناضلنا وضحينا من اجله. ثمين وذو قيمة بكل ما في الكلمة من معنى، تختلج مشاعرنا لرؤيته.
ان السهولة التي يتم فيها اليوم اقتناء الأعلام وتوزيعها بالشوارع والمناسبات الوطنية بدون اعلاء الحس الوطني وبدون تعليم وتدريب هذه الشبيبة معنى الوطن تاتي بهذه النتائج.
اجلالا لهويتنا وعلمنا، توقفوا عن توزيع العلم الفلسطيني بالشوارع والإحتفالات. ليحضر المشارك العلم من بيته ان اراد رفع العلم. ليدفع المشارك مبلغاَ رمزياَ مقابل حصوله على العلم في هذه المناسبات . وهكذا يحافظ عليه ويصونه.
وللأحزاب السياسية رجاء، لا توزعوا العلم الفلسطيني لآحتفالاتكم ومناسباتكم. اطلبوا من المشاركين احضار العلم معهم. او ارفعوا عددا قليلا من الأعلام اعيدوها معكم الى مقراتكم. علمنا اغلى من ان يوزع بالمجان. ويرمي بالشوارع. لكرامة شهداء العلم الفلسطيني. يكفينا انكسار، يكفينا انكسار.