الحدث ـــ محمد بدر
من أبسط حقوق التساؤل الفلسطيني؛ التساؤل عن الأدوار الإيجابية التي لعبها القانون الدولي أو النظام الدولي ومؤسساته لصالح قضيتنا إن كنا مؤمنين بأحقيتها. ومنذ عام 1974 وتبدو الإجابة واحدة بصيغ مختلفة؛ أن النظام الدولي ومؤسساته كانت ملعبا للقوى الكبرى المنحازة بغالبيتها لــ"إسرائيل"، ومع ذلك ظلت مراهنتنا على هذا النظام قائمة رغم معرفتنا بطبيعة العلاقات داخل هذا النظام وآليات اتخاذ القرار.
خلال اجتماع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بوفد حماس الحامل للمقترح الأممي الدولي، تحدث كثيرون، ويستوقفك مصطلح كرره خالد البطش ممثل حركة الجهاد الإسلامي عندما تحدث عن النظام الدولي واصفا إياه بالظالم، ناقض البطش نفسه حين وصف النظام الدولي بالمجتمع الدولي، ولدقة وأهمية المصطلح فإن البطش عليه مراجعة الفرق بين مصطلح "نظام دولي" و"مجتمع دولي"، وببساطة على البطش أن يعلم أن الفرق هو أن المجتمع يجمعه قاسم مشترك ووعي جمعي ورؤية مشتركة مع الاحتفاظ بهامش اختلاف، ونحن مشكلتنا مع النظام الدولي ليست اختلافا هامشيا بل معركة صفرية على مستوى الحقوق على الأقل.
قبلها بأشهر، قال متحدث آخر من الجهاد وهو القيادي أحمد المدلل للحدث إن قانون القومية هو بمثابة إعلان حرب على "المجتمع الدولي"، ومرة أخرى نقع في خطأ المصطلح ونستخدمه بطريقة لا تؤدي المعنى المضمر لدينا منه، ولو كانت هذه حرب حقيقة على ما أسماه المدلل بــ"المجتمع الدولي" لتحركت مؤسسات هذا "المجتمع" باتجاه رفض القانون، لكن شيئا لم يحدث، وسقط مصطلح المدلل والبطش بالتجربة وبالمعايير الحقيقية له.. هذه ليست محاضرة بالفكر السياسي أو بعلم الاجتماع، ولكن هناك ما يدعو للتوقف عند ارتباك الخطاب الإعلامي السياسي للفصائل، والاستدلال بالجهاد الإسلامي على اعتبار أنها صاحبة السقف السياسي الأعلى تجاه الاحتلال والنظام العربي والدولي.
بعد عام 2004 أوقفت حماس العمليات الاستشهادية، ومن ضمن الحسابات المطروحة لاتخاذ القرار كانت مسألة "نظرة العالم" لهذا العالم، وانتقلت حماس للاعتماد على الهجمات الصاروخية، وجاء ما يبرر الانتقال الحمساوي من ناحية "شرعية دينية" على لسان الأب الروحي للإخوان المسلمين يوسف القرضاوي، والذي اعتبر أن العمل الاستشهادي في ظل وجود الصواريخ "مهلكة" وليس هناك ما يبرره، والحقيقة أن "إسرائيل" التي خاطبت العالم في زمن العمليات الاستشهادية بمنطق "الإنسانية"، عادت لتخاطب العالم في زمن "الصواريخ" بمنطق "السيادة" وهو المنطق الغائب بقوة عن المشهد العالمي بعد تجاوز العالم لفكرة الدولة القومية في ظل نظام أحادي القطبية، ولكن المصطلح يعود بقوة للمشهد العالمي عند الحديث عن "إسرائيل" وسيادتها.
وهكذا سحبت التيارات الثورية الفلسطينية نفسها لدائرة "موائمة الخطاب" مع السياق العالمي، رغم أن السياق العالمي منقلب على حقيقة ما أقرّ متجاوزا لاعترافاته، وأصبحت بعض التيارات خاصة المنخرطة في السلطة ومؤسساتها، تسابق تيار أوسلو الأصلي في طرح خطاب "موائم"، ومع ذلك ظل هناك بعض الفارق بين التنظير الداخلي الشعبوي وبين التنظير الإعلامي السياسي، إلا أن الأمور حتى في التنظير الشعبوي بدأت تنقاد للتنظير الإعلامي، وأصبحت هذه التيارات تخاطب المجتمع الفلسطيني بالخطاب المرحلي "الموائم" على أنه خطاب النهاية والخلاص؛ أي تحوّل الخطاب التكتيكي لخطاب استراتيجي، ثم سيصبح "الخطاب الاستراتيجي" خطابا تكتيكيا وهكذا تستمر المسيرة.
قد يبدو نظريا الانتقال من الحديث السياسي إلى ظواهر العمل الدرامي بعضٌ من التورط في الربط، ولكن التورط الأساسي لا يبدو نظريا بقدر ما هو عمليا بين المتغيرات المذكورة، وبالمناسبة فـهذه ليست خصوصية فلسطينية. السينما الأمريكية حاولت معالجة هزيمة فيتنام بتوجيه سياسي، والسينما المصرية حاولت إعلاء شأن ضابط المخابرات وقدراته الخارقة، والدراما السورية حاولت إظهار مدى التعاقد الاجتماعي السياسي داخل المجتمع رغم أن النظام "نظام الحزب الواحد".. الخ من الأمثلة، وبالتالي فإنه من المهم دراسة الظاهرة السينمائية والتي تندرج في إطار تشكيل الثقافة وصولا لتشكيل الفكر العضوي.
ووحدة التحليل هنا والارتكاز؛ حلقة من مسلسل أرض الصوان من إنتاج مؤسسة إعلامية تابعة لحماس، وبشكل أكثر تخصيصا فإن التحليل يركز على الحلقة التي تتحدث عن الشهيد أحمد بدر أحد قادة كتائب القسام في مدينة الخليل.
تبدأ الحلقة بمشهد لمقاتل فلسطيني يقوم بتحطيم لافتات مكتوب عليها أسماء مستوطنات "بيتار عيليت" و"معاليه أدوميم" و"أرائيل" و"موديعين عيليت"، ومن ثم ننتقل لمرحلة تحرير هذه المستوطنات، ولم يكن بين الأسماء ولو اسم واحد لمدينة فلسطينية مختلف عليها مع "القانون الدولي". ثم ننتقل بالمشهد لمرحلة مطاردة الشهيد بدر، وقبل كل شيء فإن العمليات جهزها الشهيد بدر كانت طابعها استشهادي وفي القدس والداخل المحتل؛ وأبرزها عملية الاستشهادي رائد مسك في عام 2003. في حين، لم تأت الحلقة على ذكر طابع العمليات ومكانها أو مشاهد منها، وصوّرت الأمور على أنها مطاردة تكتمل كل عناصرها في مدينة الخليل (غير المختلف عليها مع القانون الدولي)، لدرجة أنك مضطر للبحث عن الشهيد بدر من خلال الإنترنت لمعرفة ما هي الأعمال التي طارده الاحتلال على أساسها.
المعاني الأخرى التي يمكن استقراؤها من الحلقة؛ الحوارات التي تنشأ بين المواطنين وبين الشهيد وأهله، والتي أخذت طابعا دينيا بحتا، وهنا النتيجة التي يمكن أن نصل إليها، هي أن الخطاب على الأقل في هذه الحلقة، كان موائما لــ"القانون الدولي" لكنه لم يبدو "متوائما" مع الطرح الوطني لمفهوم المقاومة، وحاول محاصرته بالمبدأ الديني وباللغة الدينية، وهنا نفقد جزءا مهما من معنى مقاومتنا من منظور الهوية والاستحقاق الطبيعي إلى صالح اعتبار المقاومة "استحقاق ديني".
إن الذاكرة الفلسطينية بكل أحداثها، وإعادة رسمها، لا يمكن ولا يجب أن تخضع للمتغيرات السياسية والفكرية، ولكل لحظة وفترة ومرحلة خصوصيتها، ولكن التاريخ والإرث جامع ويجب أن لا يتم تكييفه بخصوصيات المرحلة، والنظام الدولي الذي لا يلقي لتغيرات الخطاب بالا، لن يعطي لتغير المشهد السينمائي أهمية. "إسرائيل" وحدها من تراقبنا في كل شيء وهي وحدها التي قد تلاحظ هذا التغير، وبمناسبة ذلك؛ قبل أيام انتشر تقرير إسرائيلي عن العلاقات السعودية الإسرائيلية، جاء فيه: في الوقت الذي نتعاون فيه استخباراتيا مع السعودية.. يغردون ضدنا على تويتر"، ولا أظن أن مجلس الأمن والعالم ذهب ليرى هذه التغريدات، أو تهمّه، ما دام الأمر لا ينتقص من "سيادة إسرائيل" فعليا.