الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حروب أمريكيَّة وإسرائيليَّة ذكيَّة وصغيرة.. فهل ستكون المحصِّلة حرب إقليميَّة كبيرة ؟! بقلم: رائد دحبور

2018-08-10 11:35:52 AM
حروب أمريكيَّة وإسرائيليَّة ذكيَّة وصغيرة.. فهل ستكون المحصِّلة حرب إقليميَّة كبيرة ؟!
بقلم: رائد دحبور
رائد دحبور

ربَّما قد ولَّى الزَّمن الذي كانت تتقاتل فيه الجيوش في حروبِ الخنادق المباشرة – كما كان الأمر في الحربين العالميتين الأولى والثَّانية، وفي الحروب البينيَّة التي تلت ذلك في كوريا وفيتنام أو بين العراق وإيران مطلع الثَّمانينيَّات من القرن الماضي، أو حرب السويس، على سبيل المثال، أو حروب حزيران وأكتوبر بين الجيوش العربيَّة والجيش الإسرائيلي.

لقد مثَّلتْ الحرب على العراق عام 91 إيذاناً بنهاية ذلك النَّمط من الحروب؛ ومثَّلتْ إشارةَ انتقالٍ وتحوُّل إلى عصر الحروب الأمريكيَّة الذَّكيَّة، وهكذا كان قد أعلن الإستراتيجيُّون الأمريكيُّون قبل بدءِ تلك الحرب؛ التي غيَّرت كثيراً من المعادلات التَّقليديَّة وكثيراً من خرائط التَّوازنات الاستراتيجيَّة في المنطقة لصالح إسرائيل، وأعادت رسم وتوجيه منحى السِّياسات الإقليميَّة إلى السياق الذي نراه جارياً وفاعلاً الآن .. ولا بأس هنا من إعادة التَّذكير مرَّةً تلو مرَّةٍ بتصريحاتٍ وبإفصاحاتٍ وبتحليلاتٍ وآراءٍ أكاديميَّة وتكنيكيَّة فنيَّة عبَّرت وفي وقتٍ سابقٍ عن ملامح كثيرة للمرحلة التي نعيشها راهناً.

ففي محاضرَةٍ ألقاها إسحق رابين في واشنطن في نيسان من عام 92 وفي أعقابِ نهاية الحرب على العراق، قال: " الآنْ اختلَّ الميزان الاستراتيجي لصالح إسرائيل في المنطقة وبشكلٍ كبير ولأمَدٍ بعيد، وثمَّة فجوة استراتيجيَّة بيننا وبين العالم العربي تتسع لصالحنا؛ وذلك بفعلِ اختفاءِ العراق من معادلة التوازن الاستراتيجي. ثمَّ ضِحِكَ ساخِراً عندما قال: وقد تم هذا ليس بأيدينا ولا بسلاحِنا ولا بمالِنا؛ بل بسلاح الولايات المتِّحدة وبالأموال العربيَّة!! ".

وفي أوَّلِ تعليقٍ لـ " إيهود بارك " لدى تسلُّمِه منصبه رئيساً لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي في أواسط عام 1992، وفي تصريحٍ لراديو الجيش الإسرائيلي، وفي المناخ الذي أعقب الحرب الأولى على العراق، قال إيهود باراك بفَمٍ ملآنٍ وبعبريَّةٍ فصيحة وهو يشرح تقديره لطبيعة التَّحديات الاستراتيجيَّة التي تواجه إسرائيل:

"إنَّ الخطر الدَّاهم كان يأتي على إسرائيل من العراق، أمَّا الخطر الاستراتيجي فيأتي على إسرائيل من سوريا.. كان لا ينبغي الاكتفاء بقصف العراق من الجو وحصاره، وانتظار نتائج العقوبات الاقتصاديَّة، بل ينبغي احتلال العراق وتقسيمه، وقتل العقل العراقي الوثَّاب؛ ثمَّ يأتي الدَّور على سوريا!! ".. أليسَ هذا ما حصل وشاهدناه جميعاً حتَّى الآن؟!.

على ضوءِ العبر المُستقاة من حروب أمريكا على العراق وفي يوغسلافيا، مطلع التِّسْعينات؛ صاغ إيهود باراك ومجوعة من ضبَّاط الأركان الإسرائيليين – بحسب يوري بن إليعازر في كتابه الذي حمل عنوان حروب إسرائيل الجديدة – نظريَّةً ورؤيةً جديدةً للحروب التي ستخوضها إسرائيل في المستقبل؛ فقد اعتمدت تلك الرُّؤية تحويل الجيش الإسرائيلي إلى جيشٍ صغيرٍ وذكيّ، وبحيث يعتمِدُ نظريَّةً تُسمَّى " كيِّ الوعي والإنهاك " في المواجهة مع الفلسطينيين واللبنانيين ومع السُّوريين إذا لزم الأمر، بمعنى ضربات مُركَّزة، كثيفة وعنيفة، تعتمد بشكلٍ كامل على سلاح الجو وعلى طائرات الأباتشي وتُسْتَخْدَمُ فيها الذَّخائر الذَّكيَّة ذات القدرة التدميريَّة المركَّزة والصَّاعقة، وعبر ما يتم على الأرض من شَنِّ عمليَّات نخبويَّة تطِّلِعُ بها وحدات صغيرة مختارة واحترافيَّة - وتجري الآن محاولة دمج جنود من الرُّبوتات الرَّقميَّة في نشاطاتها الميدانيَّة -  وبمقدارٍ كبيرٍ من النِّيران وتُدار عبر شاشات البلازما الضَّخمة ويتم توجيهها من خلال الطَّائرات بدون طيَّار – وبهذه الطَّريقة أدارت إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في انتفاضة عام 2000 وفي حرب تموز على حزب الله ولبنان عام 2006، وفي حروبها على قطاع غزَّة. لقد اعتمد هذا النَّمط من الحروب وبدرجَةٍ كبيرة على سلاح الجو وعلى القذائف الذكيَّة التي تطلقها الطَّائرات؛ إلى الدَّرجةِ التي دفعت برئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق – أثناء حرب لبنان الثانية - الجنرال " دان حالوتس " إلى القول ساخراً عندما سُئِلً وعلى سبيل المثال عن أهميَّة سلاح البحريَّة الإسرائيلي: " إنَّ هذا السِّلاح يصبح ذا أهميَّة إذا أُلْحِقَ بسلاح الجو!! ".

وكان قد جاءَ قرار تعيين الجنرال دان حالوتس رئيساً لهيئة الأركان في تلك المرحلة – أصلاً -  مُتأثِّراً وبشكلٍ جوهريٍّ وأساسيٍّ بكونه قائداً لسلاح الجو، الأمر الذي عكسَ حينئذٍ عمق تأثير نمط الحروب الأمريكيَّة الجديدة في المنطقة والعالم على منحى التفكير الاسترايجي الإسرائيلي. وبالمناسبة فقد عدَّ كلٌّ من المُحلِّلان العسكريَّان " عوفر شيلح  ويوءَاف ليمور " في كتابهما المهم " أسرى في لبنان " التركيز على تطوير كفاءَة سلاح الجو على حساب سلاح المدرَّعات والمُشاة وعلى حساب سلاح البحريَّة أحد أسباب الإخفاق في حرب لبنان الثَّانية. 

 هكذا إذاً كانت الرُّؤية لصياغة نمَطٍ جديد من الحروب الأمريكيَّة والإسرائيليَّة.. لكن، كان ثمَّة حاجة أمريكيَّة لإدامة دوران عجلة المجمَّع الصِّناعي العسكري الأمريكي العملاق، كَمُكَوِّنٍ أساسيٍّ من مكوِّنات الاقتصاد الفدرالي الأمريكي؛ ولذا كان لا بد من استمرار الحروب والنِّزاعات فعَّالة في المنطقة.

 وقد كان ثمَّة حاجة إسرائيليَّة أيضاً لاستكمال الانتهاء من مهمَّة مواجهة آخر التَّحدِّيات الإستراتيجيَّة التي من الممكن أن تواجه إسرائيل في المستقبل مع دول الجوار ومنها سوريا في الدَّرجة الأولى في المستوى الواقعي، ومن ثمَّ مصر نظريِّاً – حيث يبقى أمر احتمال مواجهة مع مصر قائماً في الحسابات الإستراتيجيَّة الإسرائيليَّة - لذا كان من الضَّروري أنْ يتم دمج نمط الحروب الذَّكيَّة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة الجديدة مع نمط الحروب بالوكالة، عبر نظريَّات الفوضى الخلَّاقة وافتعال أسباب النِّزاعات المحليَّة والدَّاخليَّة، وضرب استقرار دول المنطقة ومحاولة تفكيكها عبر عمليَّة إزاحة المجتمعات نحو مربَّعات اختلال التَّوازن والانسجام الدَّاخلي، ونحو مربَّعات ضبابيَّة تحديد الأولويَّات وضياع الخيارات، وإغراق المنطقة بطوفان التَّطرُّف والإرهاب عبر الأدوات التي تم استخدامها في كلٍّ من سوريا والعراق وليبيا ومصر حتِّى الآنْ.

كما أنَّ نمط الحروب الذَّكيَّة اعتماداً على جيوشٍ صغيرة وذكيَّة يُخفِّف من عبءِ الموازنات الضَّخمة المرصودة للحرب والدِّفاع، ويُتيحُ التركيز على تطوير اقتصادات رأسماليَّة فعَّالة – في كلٍّ من إسرائيل وأمريكا على حدٍّ سواء -  بما في ذلك تفعيل برامج دمج القطاعات الاجتماعيَّة والنخبويَّة والتقنيَّة التي كانت مشغولة بالإعداد للحروب في العمليَّة الإنتاجيَّة بشكل أكبر، وتطوير اقتصادات الإنتاج والخدمات بدلاً من الانشغال بإعداد البرامج العسكريَّة والدِّفاعيَّة الضَّخمة، وهذا يعني فيما يعني، وكجزءٍ من تطوير قطاعات الإنتاج التِّقني والصِّناعي ما يشمل التَّركيز على إنتاج التِّقنيَّات والمعدَّات  العسكريَّة المُعدَّة للتصدير والمنافسة والبيع في أسواق السِّلاح العالميَّة ومناطق النِّزاعات والتوترات المفتعلة في معظمها؛ كي يتقاتل بها الآخرون على أراضٍ بعيدة في حروبٍ بالوكالة، ومنها ما شهدنا من حروب أهلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وما استدعاهُ النَّفخ في فوبيا الخطر الإيراني من بيع أسلحة لدول الخليج العربي بمئات مليارات الدُّولارات في السنوات الأخيرة.

إذاً كانت تلك جملة من الحروب الصَّغيرة – بالوكالة – من حيث المحصِّلة؛ وقد كانت المحصِّلة كارثيَّة وكلفتها بشريَّاً واقتصاديَّاً كانت أكبر بكثير من أيِّ حربٍ كبيرة. لكن ومن حيثِ السَّيرورة ربَما تكون مقدِّمة لحروبٍ إقليميَّة وربَّما دوليَّة مباشرة كبيرة بوسائل الحروب الذِّكيَّة لكن المُدَمِّرة؛ وذلك ربَّما عندما تخرج تلك النِّزاعات عن السيطرة وعن نطاق التَّحَكُّم وهو ما يمكن أنْ يحصل كارتدادٍ للخيبة الإسرائيليَّة من نتائج الحرب في سوريا وعلى سوريا وكنتيجةٍ لاستمرار التَّدخل الإسرائيلي الواضح والفج لصالح بقايا التنظيمات المسلَّحة ولصالح إبقاء الأوضاع هناك في عمق الفوضى ودون مستوى الاستقرار بذريعة ضرب الوجود الإيراني وضرب نشاطات حزب الله والإيرانيين في جنوب سوريا وقرب الحدود الشمالية في هضبة الجولان، واستمرار هذا النمط من الحروب الصغيرة – الفعلية في اليمن وسوريا وعلى غزَّة إلى حدٍّ ما مع استمرار التلويح بالتَّهديدات على جبهة الشَّمال، وبما فيها الحروب الكلامية في الفضاءَات الإعلاميَّة فوق سطح مياه الخليج الضَّحلة – قد يُدْفَعُ بها من خلال سياسات انفعاليَّة متهوِّرة نحو مواجهات واسعة وأشمل وأعمق، وأكثر مباشَرَة، وهو ما نرى إرهاصاته عبر الحروب الكلاميَّة المُفْعَمة بالحماسة والوعيد، التي يشنها بعض العرب ضد إيران، والتي تُغذِّيها آلة الدِّعاية الأمريكيَّة، والتي تدفع بها السياسات والإجراءَات الاقتصاديَّة الأمريكيَّة ضد إيران إلى التحقق الواقعي والعَيْني وإلى مربَّع اشتباك إقليمي مباشر أكثر حدَّةً وعمقاً؛ والحربُ أوّلُها الكلام !!.