طقوس الصباح رافقتني طوال فترة الدراسة الثانوية ومن ثم الجامعية، فنجان القهوة والسيجارة والجريدة التي بقيت معي حتى اليوم. التغييرات تطال كل شيء، بالنسبة لي أصبحت أستمع إلى صوت حليم صباحاً وفيروز مساءً، وأتصفح جريدة إلكترونية عوضاً عن الورقية. يأتي التغيير الأخير لينهي عصر المحسوبية العلنية تبعاً لاسم الجريدة! فليس بمقدور الجميع الاطلاع على المواقع التي أتابعها بشكل يومي، ولذا يصعب معرفة اتجاهاتي السياسية أو أصولي العرقية وفقاً للجريدة التي أشتريها!
حين كنت على مقاعد الدراسة، كان الناس يجلسون على الصحف ويتهامسون الأخبار ويكتمون همومهم ولديهم الكثير من الأسرار، فلم يكن مسموحاً للصغار أو الفتية منا البوح بما يدور داخل البيوت، وعلينا أن نرتدي بعض الأقنعة التي تمنع الفضوليين من نبش حياتنا الخاصة، والتعرف إلى نمط معيشة الأسرة الأردنية الحقيقي. هنا يأتي الدور الكبير الذي لعبته "الخزانة الأردنية" في حياتنا سابقاً، وحفظها لأحاديث وأسرار وإشاعات العامة، لست أدري حقاً كيف اتسعت تلك الخزانة لأصواتنا جميعاً! وهل أضاع جارنا "بديع المجنون" المفتاح عن سابق إصرار وترصد كما أشيع وقتذاك؟ بالمناسبة كنت أظن سبب جنون "بديع"، دهسه لأمه بغير قصد، وأعترف أني كنت أخافه كثيراً حتى أن أخي عمار ما انفك يذكرني بمدى الرعب الذي كان يصيبني بمجرد ذكر اسمه أو التلميح باقترابه من سور بيتنا. اتضح لي لاحقاً أن أم بديع ماتت عجوزاً هانئة في فراشها الدافئ، وأن الفتى ليس إلا مسكيناً كان يتحدث خارج الخزانة!
الخزانة سر كبير، وصفحات الجرائد لم تعبر يوماً عن واقع الحال الذي يعيشه الأردنيون. اليوم ذاع صيتنا في أنحاء المعمورة، فنحن نكتب بأطراف أصابعنا وضجيج الأخبار يعم الأزقة والحارات، وهمومنا أصبح يمثلها "شلة" من الممثلين الكوميديين الذين ينامون تحت قبة برلمان! يتسولون العطايا والهدايا والمشاريع التجارية التي تعود عليهم بالثروة من البلدان القريبة والبعيدة على اختلاف أجنداتهم الإقليمية. وحين تشتد الحال على المواطن الأردني وتتدهور أحواله الاقتصادية وترتفع الأسعار بشكل جنوني، وتزيد معدلات البطالة ترافقها قضايا اجتماعية وسياسية وأزمات ثقافية وفنية، يأتون بمشاهد خفيفة الظل تضحك العالم بأسره، ويشمئز الشعب!
هند الفايز، الإنسانة التي خرجت من الخزانة الأردنية إلى الشارع البريطاني لتشارك المتظاهرين احتجاجاتهم على الانتهاكات الأخيرة للاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة. هي عضو في كتلة التجمع الديمقراطي الذي أوصلها إلى قبة البرلمان الأردني. اعترضت على مشروع الطاقة النووية الذي تم طرحه في إحدى الجلسات نظراً لأخطاره البيئية والصحية، كما رفضت بشكل قاطع اتفاقية الغاز مع إسرائيل. هي هند الفايز التي قالت بحضور الملك عبدالله أن "مشكلتهم كنواب تكمن في بنود الدستور التي تمنح الملك حق حل المجلس بجرة قلم"!
ليس غريباً مقطع الفيديو الذي سجل في البرلمان الأردني مؤخراً وحقق انتشاراً عالمياً واسعاً، حيث يظهر فيه النائب يحيى السعود وهو يصفق الطاولة غاضباً مطالباً زميلته هند الفايز بالتوقف عن الكلام بعد إصرارها على الحديث، صارخاً بأعلى صوته: "أقعدي يا هند"، وتعالت أصوات أخرى من منصة الرئاسة ومن داخل القاعة مرددة ذات العبارة التي أصبحت "هاشتاغ"، انتشر كالنار في الهشيم على جميع مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الرئيسية لوكالات الأخبار الشهيرة، يرافقه تضامن واضح بين أشهر الكتاب العرب الذين تناولوا في مقالاتهم ما جرى تحب قبة مجلس النواب الأردني. فيما كانت المفاجأة الحقيقية مبادرة النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي حنين الزعبي لتوجيه تحية إلى النائب هند الفايز على مواقفها واصفة إياها بالمناضلة العربية القومية.
يبطل العجب سريعاً حين نسترجع في ذاكرتنا تاريخ التمثيل النسائي في مجلس النواب الأردني، حيث حصلت المرأة الأردنية على حق الترشح والانتخاب في عام 1974. ترشحت (12) امرأة في انتخابات العام 1989، ولم تفز أية امرأة، فيما ترشحت (3) نساء في انتخابات العام 1993، وتمكنت واحدة من الفوز عن طريق مقعد الشركس والشيشان. في منتصف عام 2001 تم إصدار قانون انتخاب مؤقت يزيد بموجبه عدد مقاعد البرلمان من (80) إلى (104)، وعدد الدوائر الانتخابية من (21) إلى (45) دائرة، إلا أنه أبقى على نظام الصوت الواحد. لتأتي "وثيقة الاردن أولاً" في عام 2002 وتراعي تمكين المرأة وإتاحة الفرصة لها للوصول إلى البرلمان عبر حصة نسائية وبتوصية ملكية! حينها فقط تمكنت 6 نساء من دخول المجلس للمرة الأولى من خلال الكوتا بعد تعديل قانون الانتخاب في عام 2003.
يتضح لنا مما سبق أن الموروث الاجتماعي في الأردن يرسخ عدم قناعة المجتمع بدور المرأة وأهمية وصولها إلى المواقع القيادية ولا سيما السلطة التشريعية، حيث النظرة العامة لا تزال سلبية لدور المرأة، والتيار الرجعي هو ما يحكم العامة التي ترى المرأة أقل شأناً من الرجل، وعدم أهليتها، من وجهة نظر ذكورية، أن تكون ممثلة للشعب في هيئات منتخبة. وما يثير التساؤل على الدوام موقف المرأة الأردنية التي تلجأ إلى الرجل حتى تقرر من تنتخب، ويكون ذلك وفقاً لاعتبارات عشائرية لا تراعى فيها المصلحة الوطنية ودعم قضايا المرأة.
هند الفايز التي قال في حقها النائب يحيى السعود "الله ينتقم من اللي كان السبب بالكوتا تحت هالقبة"، هي ذاتها من شتمها زميلها النائب محمد العشا بكلمة نابية في جلسة سابقة قائلاً: "أنت واحدة ساقطة"! إنها وبكل صراحة الممثل الشرعي وليس الوحيد عن المرأة في مجتمعنا الأردني، ألسنا كلنا هند؟