هل تذكرون التطوع الطبي الفلسطيني لعلاج الضحايا في ليبيا أيام حرب التحرير الأمريكية التي استهدفت ذلك البلد بغرض تخليصه من الطاغية القذافي، وجلب الديمقراطية على الطريقة الأمريكية إليه؟ كلنا يعرف ما حل بليبيا منذ ذلك الحدث السعيد، ولكنني شخصياً، لم أعلم حتى اللحظة على وجه اليقين ما الذي ذهب من أجله الأطباء الفلسطينيون في تلك الغزوة الإنسانية.
ترى ماذا ينتظر من الفرنسي إذا تعرضت باريس أو ليون للعدوان؟ بل ماذا ينتظر منه إذا تعرضت إسبانيا للعدوان؟ هل يوجد حاجة إلى أن نذكر أنفسنا بإسبانيا 1937 (Spain 1937) الذي هو عنوان قصيدة لشاعر إنجليزي هو و.ه. أودن W.H.Auden يلخص الحرقة الأوروبية تجاه ما يحصل في إسبانيا من مجازر لا ترقى أبداً لما جرى ويجري في فلسطين.
هل يعد الغزاوي مواطناً عربياً يستحق تورط إخوته المواطنين العرب في همه؟ يجب أن نتردد في إجابة هذا السؤال بانتظار أن يحسم العرب في المستوى الشعبي على الأقل انتماءهم للعروبة؟ لكن إذا انتكسنا إلى مستوى الإقليم، ألا يمثل الغزاوي جزءاً من إقليم فلسطين؟ لا بد أن الجواب البدهي هو نعم. لكن هيهات، هيهات. عندما تختلط المواطنة وتلتبس يمكن أن نصل حالة كوميدية من الانتماء: في إحدى المرات قامت عشيرة العبادي في الأردن بمظاهرة كبيرة وشجاعة دعماً لغزة. كان حدثاً مشرفاً من حيث المبدأ، ولكنه كان حدثاً مؤلماً من حيث الكوميديا السوداء التي احتواها، إذ كيف يمكن دعم نضال عربي في فلسطين انطلاقاً من هوية عشائرية! حتى الشعارات كانت مثيرة للسخرية في براءتها من ناحية إعرابها عن تضامن "العبابيد" مع غزة.
نخشى بالفعل أن الهوية العربية قد تشظت إلى حد أن المواطن العربي ما عاد لديه مواطنة تتجاوز العشيرة أو الحي الصغير. وهذا يعني أن على غزة ومقاومتها أن تنتظر هبة آل الشخشير في نابلس أو آل حسونة من اللد في رام الله أو آل أبوسنينة من الخليل ...الخ من أجل التضامن معها لأن آل الأمة العربية لا وجود لهم، والأدهى أن آل الإقليم الذي ذبح مشروع الأمة من أجل تكريسه لا وجود لهم أيضاً.
يبدو لنا من ناحية "نظرية الأمة" أنه لا يمكن أن نؤسس لأمة لا وجود لعناصرها التي تعزلها عن غيرها قبل عناصرها التي تجمع ما بينها. ونقصد أنه بسبب عدم إمكان فصل الفلسطيني عن السوري من ناحية الخصائص يغدو مفتعلاً تأسيس أمة فلسطينية. وهذا الافتعال سيقود المواطن الفلسطيني العربي إلى الانحدار إلى مستوى عدم الإيمان بأية هوية، مما يصل بنا إلى حالة جحا أو حالة العشيرة في أفضل الأحوال، ثم يحدث أمر خطير من قبيل الانزلاق إلى العدمية الداعشية وما لف لفها في ظل استثمار استعماري أمريكي بخاصة وغربي بعامة.
لو كان الطبيب الفلسطيني في رام الله ونابلس والخليل يستدخل فكرة مفادها أنه وغزة في مركب "انتمائي" واحد لهب للمشاركة في موقعتها من دون كلام عن التبرع والدعم والمؤازرة والبحث عن الممول وعن المجتمع الدولي وكل ما يتصل بهذه الترهات. وعلى ذكر المجتمع الدولي نرغب في هذا السياق في التأكيد أن أساطير حقوق الإنسان والمنظمات الدولية وقواعد القانون الدولي الإنساني تسهم كلها في بناء ما يمكن تسميته بمجتمع فرجة عربي وفلسطيني.
الناس تنتظر فعلاً يأتي من مكان ما. ينتظرون مؤازرة من "أمنستي" أو من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أو من محكمة لاهاي، ويتيهون في دهاليز فكرة معاقبة إسرائيل. ويستبدلون ذلك بإسهامهم الفعلي في "خلع الشوك" بأيديهم لمصلحة انتظار الخارج العولمي ليقوم بالمهام بالنيابة عنهم. لذلك تطغى جعجعة لا طائل تحتها هنا وهناك حول محاسبة إسرائيل وجلبها للمحكمات الدولية المختلفة. وتسود حالة فرجة وانتظار محزنة.
ينسى الناس أن هذه المنظمات والمبادئ قد صيغت بشكل أساس من قبل طرف واحد في العالم هو الولايات المتحدة على قياس احتياجاتها بوصفها قوة مهيمنة بعد الحرب "العالمية" الثانية. وقد كانت المؤسسات الدولية المختلفة فاعلة ونشطة وجاهزة إلى أقصى درجة لتقوم بكل ما يلزم لفضح وتعرية وإدانة كل من تراه الولايات المتحدة متورطاً في انتهاك مبادئ الإنسانية، أما إذا رأت الولايات المتحدة خلاف ذلك فالعوض في سلامتكم، إذ أن أحداً لن يحرك ساكنا. هل نسينا كيف كانت مئات المنظمات الدولية تقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل يهودي روسي تضعه الدولة السوفييتية تحت الإقامة الجبرية؟ هل رأيتم حجم التضامن الكوني مع أسرى "إسرائيل" لدى حزب الله؟ أو مع "شاليط" الجندي الأسير لدى حماس؟ أين ذلك من الهدوء العالمي تجاه المجازر في الضاحية الجنوبية أو غزة، أو حتى تجاه التطهير الديني والعرقي في العراق وصولاً إلى إعادة عصر السبي وبيع النساء في نينوى والموصل في ردة قروسطية تنظمها المخابرات الأمريكية المشرفة على داعش، ويقف المرء حيالها مشدوهاً لا يعرف إن كان عليه أن يضحك أو يبكي؟
إن من ينتظر دعم "العالم" أحد شخصين: إما أنه ضحية مسكينة وساذجة لأساطير حقوق الإنسان والمنظمات الدولية (=الأمريكية)، وإما أنه مرتزق يعمل لخدمة المشروع الاستعماري الكوني بحسن نية (=مقتنعاً أنه يناضل مع منظمات ديمقراطية تسعى إلى نشر حقوق الإنسان والوعي الديمقراطي عبر العالم) أو بسوء نية (=يدافع عن قبضة المال مدعياً أنها حقوق الإنسان أو الماركسية أم العرافة على رأي مظفر).
ارتقت المقاومة الفلسطينية مرتقى صعباً بالفعل، وأبلت بلاء حسناً على الرغم من بعض الخلط في مواقفها السياسية . وذلك يتطلب ارتقاء وعي المواطن العربي على الأقل في اتجاه التوقف عن السلبية السياسية الساذجة التي تتوهم أن حلولاً سحرية لمشاكل الوطن والأمة تأتي على جناح طائر حقوق الإنسان المجنح، وفي اتجاه القناعة التي تؤدي إلى العمل على أساس أن فعلنا العربي النشط في المجالات كافة، وخصوصاً في الإقليم الفلسطيني، وما حوله هو الطريق إلى انتصار غزة وفلسطين، والأمة العربية كلها.
لا بد أن علينا في غزة ورام الله ودمشق وعمان والقاهرة وتونس الجزائر...الخ أن نعلم أن أمريكا وصفقاتها ليست قدراً. أمريكا تعجز اليوم أكثر من أي وقت مضى عن التحكم في اتجاه السفينة السياسية الكونية مثلما يتجلى الأمر في شرق آسيا وسوريا واليمن بل في "حديقتها الخلفية" أمريكا اللاتينية.
لكن ارتفاعنا إلى مستوى التحدي السياسي الهائل الذي ينذر باستسلام غزة المضغوطة والمحاصرة من أجل فرض التسوية الخطيرة المسماة بصفقة القرن يتطلب الانحياز الصريح لمعسكر المقاومة، وإلقاء "أسلو" في وجه الأمريكي الذي أنتجه بوصفه مرحلة على طريق ابتلاع فلسطين كلها مثلما هي "صفقة القرن" مرحلة أخرى في الاتجاه ذاته.
وفوق ذلك لا بد من إدراك أن "جودو" المجتمع الدولي لا وجود له، تماما ًمثلما العنقاء والغول وحقوق الإنسان، والديمقراطية.
حاشية: سمعنا في الآونة الأخيرة كلاماً محزناً عن قيام بعض القادة من المناضلات والمناضلين داخل السجن بتدريب المعتقلات والمعتقلين الصغار على مبادئ القانون الدولي الإنساني. إنه اتجاه مرعب لزرع أوهام "جودو" المجتمع الدولي الذي سيشكل البديل للنضال الفعلي المؤلم للاحتلال.