العنوان أعلاه هو تَحريف بتصرّف من روايةٍ جديدةٍ لروائيّ شاب طرح قضيّته الوطنيّة في إطارٍ شخصيّ، حينما عالجَ مسألة الهويّة والمكان، فضلًا عن قضايا من وزن المعنى لكلّ شيء، والوجوديّة ببعدها الفردي والجمعي، وصولًا إلى العدميّة، وبين هذه وتلك قضيّة الموت باعتباره الشّكل المكمّل للحياة بمعناها المادي، وقد جئت بهذا التّحريف الذي يعود أصله للكاتب الشابّ تحتَ عنوان "رجلٌ واحد لأكثر من موت" لكوننا جميعًا بحاجةٍ ماسّة للسّؤال، أكثر من حاجتنا العميقة للكثير من الإجابات، خاصّة من أولياء أمورنا السّياسية.
ولعلّ الأمر برمته هو أنّنا نستطيع أن نلاحظ حينما تُطرح إحدى تفصيلات قضايانا الداخليّة بوصف مجموع التفاصيل هي التي تشكّل الحدث، أيّ حدثٍ سواءً أكانَ صغيرًا أم كبيرًا، هذا الطرح الذي عادة ما نُدخله وندخل معه وقبله وبعده، في جدل عقيم، عوضاً عن ضرورة طرحه بأسلوب فكري يشبه بشكل أو بآخر، حالة العصف الذهني الجمعي الذي أظنّه صحيًّا إلى حدٍ يمكن من خلاله أن تُبنى الأوطان.
نحن - وأعني الكلّ الحزبيّ في هذه البلاد، بين مشروعيّة السّؤال واتهام السائل بعديد التّهم- نمارس فعل الرذيلة المجتمعيّة، حينما ندّعي ملكيتنا الحصريّة للوطنيّة، وحقّ تخوين الآخر فقط لأنّه آخر بفكره وانتمائِه، ما يعني أنّنا نمارس فاحشة ما ننتقده من عنصريّةِ هذا المحتل ليلَ نهار، ليُقتل الوطن مرّة من المحتل، ومرات بفعل مزايداتنا الرّخيصة على بعضنا البعض.
الرّواية التي حرّفتُ عنوانها، تؤكد في مضمونها العامّ أنّ الوجوديّة عندما تتصارَع مع العدميّة في نصٍ سرديّ واحد، تجعلنا نَعتقد للوهلة الأولى أنّنا أمامَ حالةٍ يعتريها التّشوش إلى حدٍ بعيد، ولكن مع تتبعِ الأحداثِ وما يدور في هامشها، يجدُ المرء نفسَهُ بقصد أو دون قصد في حالة بحث دؤوبٍ عن الوجوديةِ بوصفِها الطريق الأمثل ربما للوصولِ إلى العدميّة، إنْ صحَ الربطُ أو التوصيف في مثلِ هذه الحالة، حالتنا.
"رجلٌ واحدٌ لأكثرَ من موت" هي روايةٌ تقدّمُ عالمًا سرديًا مختلفًا من جهةِ طرحِ الأفكار، وحبكةِ المشاهد، بهدفِ مناقشةِ فكرةِ (الزّمكان) بأسلوبٍ فلسفيٍ يعتمدُ بالأساس على حضورِ صوتِ الراوي العليم في بعدهِ الإنساني مرةً، والقوميّ مراتٍ أخرى.
وفي هذه الرّوايةِ التي تعدُّ العملَ الثاني للكاتب "محمد جبعيتي"، نجدُهُ يعالجُ القضيّة الوطنيّة، ويتناولُ الأساطير، دونَ إغفالِ المرورِ على التّجاربِ الإنسانية الأخرى، كتجربةِ الهنودِ الحمر، ربما لضروراتِ التأكيد على أنّ عواملَ كالقوميةِ واللغة مثلًا، هي عوامل فارقة تندرجُ ضمنَ اشتراطاتِ المجابهة الناجِعة لأيّ شكلٍ من أشكالِ الاستعمار أيًا كان وصفُه أو عقيدتِهِ، وبالرّغم من ذلك نجدَهُ "أي الكاتب" يغوصُ عميقًا في حالةِ استلابٍ واستسلامٍ تدفعُه لتركِ الخاتمة مفتوحةً على غدٍ مجهولِ الهوية، وربما على بداياتٍ معلومةِ المصدر والنتيجة.
والسؤال هنا: هل يمثل الكاتب حالة فرديّة أم حالة جمعيّة؟ أكانت عوامل كالقوميّة واللغة، عوامل مساعدة لمجابهة الاحتلال فعلًا، أما أنّنا شوهنا ما يجمعنا لنُدخل اللّغة في أنانيتنا الفرديّة والحزبية، والعشائرية والطائفية إلى ما هنالك من عبث مقيم؟
الموتُ في الرواية حاضرٌ بوصفهِ قيمةً لا تقلُ أهميّةً عن قيمةِ الحياة، إن لم تتفوّق عليها باعتباره -وأقصد الموت- الحقيقةُ الأكيدةَ المفروضة على كلّ البشر، غير أنّ الكاتب في روايته يطرحُ قصةَ رجلٍ يخطفهُ الاكتئاب حدَّ الغرق في السوداويّة، وإن كان دائمَ البحثِ عن الخلود، ما يجعلهُ في صراع دائم ومتحرك بين محاولات الخلود والحقّ في اختيار شكل الفناء ولو عبر الفنتازيا.
أمّا البنية السردية للعمل فقد أشبَهت إلى حد بعيدٍ بنية الواقع المجتمعيّ في فلسطين والجوار، فوظفت المشروعيّة الضمنيّة للروائيّ في البحث والتقصي، لينهل الكاتب من الاقتباسات المعرفية ما يشاء، بشكل لم يأت على سبيل المصادفة، وهو بالضّبط ما يمارسه البعض منّا في رفعه للشّعارات الفارغة من أيّ مضامين وطنيّة واضحة، وإن قصدَ الكاتب غير ذلك.
في حين أنّ خاتمة الرّواية تطرح عدّة أسئلة مَشروعة وشائكة في آن واحِد، كقوله: هل أنا ضحيّة أم جلاد؟ هل العدالة في الانتقام؟ لِمَ تأخذنا الحياة إلى دروب لا نشتهيها؟ وهي أسئِلة يختلط فيها الفلسفيّ بالوجوديّ دون إغفال الواقع بكلّ أبعاده المأساويّة، ما يطرح على الكلّ الوطنيّ أن الخلاصة الأكيدة في مثل حالتنا الوطنيّة الهشّة، أنّنا جميعًا ودون حسابات الصّواب والخطأ، نتحدث عن وطنٍ واحد، محتلٍ، محاصرٍ، معنفٍ، معذبٍ، مسلوبٍ، مسروقٍ، ولكنّه وطنٌ واحدٌ لأكثر من مَوت، قد نُموّته بأيدينا قبل أيدي أعدائنا.