عجوزان بلغا من العمر عتيا يجلسان على كرسيين متحركين في وسط ساحة رابين في تل أبيب ويحملان يافطة كتب عليها بالعربية والعبرية الحقيقة المجردة: "ولدت قبل ميلاد دولتكم". من حولهما، تجمّع الآلاف من الفلسطينيين من أجيال أبنائهم وأحفادهم وأولاد أحفادهم يحملون العلم الفلسطيني ويهتفون "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين". المشهد مرعب بكل تفاصيله لأي صهيوني عنصري يندم في قرارة نفسه أن أجداده الذين أنجبوا هذه الدولة المشوهة لم يأتوا على كل هؤلاء ويمحوهم من الوجود عندما أتيحت لهم الفرصة. ويزداد عامل الرعب في تواجد يهود إسرائيليين في الساحة يطالبون بإلغاء قانون القومية العنصري الذي جاء ليرّسم نظام التمييز العنصري وعقلية الإقصاء والإنكار للوجود الفلسطيني التي أُسست الدولة الإسرائيلية.
صحيح أن المشهد لم يخلو من الشوائب وصحيح أيضاً أن هناك من اليهود الإسرائيليين والأمريكيين المشاركين من لا زالوا متمسكين بصهيونيتهم وغير مدركين أن الفكر الصهيوني وتجلياته قائم على إنكار وجود وحقوق وإنسانية الفلسطيني لأن الاعتراف به يعني الاعتراف بالنكبة وضرب الرواية الأسطورية الصهيونية في الصميم. وجود هؤلاء هو انعكاس لعملية التحرر من الأوهام الصهيونية المؤلمة لأصحابها لكنها المخاض الذي لا مهرب منه لمن يرى في نفسه إنساناً يؤمن بكرامة الإنسان بغض النظر عن العرق أو الدين. إرهاصات المخاض هذا تتسارع في الولايات المتحدة بينما لا تزال تأخذ أولى خطواته في إسرائيل. كل هذا لا ينتقص من أهمية الرسالة الفلسطينية الأصيلة التي علت في تل أبيب ويجب البناء عليها: الفلسطيني باقٍ والنكبة لن تتكرر والفلسطيني جزء من تضاريس هذه الأرض ولن يقبل أن يعيش على الهامش وأن ينكر ذاته حتى يحظى ببعض من حقوقه الأساسية والإنسانية. وفي طيات هذه الرسالة فائقة الأهمية، هناك رسالة أممية واضحة أيضاً ومرتبطة بحقيقة أن الفلسطيني في إسرائيل ليس مهاجراً أو مستجدا ولن يعتذر عن هويته أو يُميعها في سبيل المساواة، فهو حر رغم القوانين التي تريد له أن يكون ضيفاً غير مرحبٍ به في أرضه.
أخطر وأهم ما يمكن أن يطالب به الفلسطيني الذي فرضت النكبة عليه جنسية غريبة تعاديه هي المساواة والحقوق الكاملة وهو يرفع علم فلسطين عاليا في وسط تل أبيب. في هذا السياق، يمكن اعتبار درجة الغلو التي وصلها المجتمع الصهيوني اليميني العنصري، فرصة استراتيجية لتعرية إسرائيل وأساطيرها والغرب المنافق الذي هرب من ساعة الحقيقة هذه طويلاً. فالفرق بين مطلب المساواة للفلسطيني داخل إسرائيل وأي حركة مدنية تطالب بالمساواة في الحقوق في أي دولة أخرى أن الفلسطيني يعري بمطالبته هذه أركان وأساسات الدولة الإسرائيلية التي تريد للعالم ألا يرى منها سوى أسطورة التنور الغربي وسط صحراء التخلف والغلو العربي-الإسلامي.
لطالما تبنى الغرب هذه الأسطورة عن سابق إصرار وتعمد لتسهل عليه حالة الإنكار التي يعيشها وتجنبه الابتزاز السياسي والمعنوي عما اقترفه بحق اليهود قبل سبعين عاما. لكن الغرب لم يعد يقوى على الهروب من شمس الحقيقة بعيداً، ولم يعد يجد غربالاً قادراً على حجبها، ولا يستطيع في زمن التواصل الفوري الذي لا يخضع لرقابة أو تقييد، أن ينكر ما خرج الآلاف للتأكيد عليه قبل أيام وما عززته ردود أفعال أركان الدولة الهستيرية: إسرائيل دولة عنصرية تريد للفلسطيني أن يزول مادياً ومعنوياً عن طريق التنكر له ولهويته ومحو وجوده الثقافي والإنساني من خلال منظومة سياسيات وقوانين تتخطى الأبارتايد في عنصريتها وعنفها الاجتماعي. هذه الحقيقة تبين وبما لا يدع مجالاً للشك أن نظاماً عنصرياً كهذا لا يمكن أن يقبل بالفلسطيني نداً تحت أي ظرف طالما استمر في غييه دون حساب أو عقاب ولم يقبل أن يمارس الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير على فتات من أرضه التاريخية مهما كانت الظروف.
لكن المفارقة في ولوج هذه الفرصة التاريخية هو الواقع الملتبس الذي يعيشه الشعب الفلسطيني بعيداً عن إخوته الذين يخوضون معركة الهوية والمصير في إسرائيل بوعي وإصرار رغم كل الصعوبات والتشويش. في الأرض المحتلة (1967) هناك مشهد سياسي بائس ومشلول ينزلق بالشعب سريعاً نحو اليأس وضياع الهوية. بينما يرفع الفلسطينيون علم فلسطين في تل أبيب، يتبارز الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة على حمل أعلام قبائلهم السياسية وإهمال العلم الوطني. وبينما تصدح الحناجر في عقر دار الصهيونية العنصرية بعناوين الهوية الوطنية الفلسطينية دون تردد، يختلف الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1967 حول ملامح الهوية الوطنية وعناصرها وينشغلون بصغائر الأمور ويهملون كبائرها ليساهم إهمالهم في تآكل المنظومة السياسية برمتها. يغني أحفاد توفيق زياد "إنا هنا باقون فلتشربوا البحر" في الناصرة وحيفا ويافا بينما يبحث أربعون في المائة من الشباب في رام الله وغزة ونابلس والقدس وغيرها من المدن عن سبيل للهجرة بعد أن تسلل الشعور بالغربة لوجدانه وانقض التفتت السياسي والتوحش الإيديولوجي على كرامته فكفر بالشعارات الرنانة الكذابة التي تريد إقناعه أن جوعه وقهره وضياع فرصه، عناوين لكرامة زائفة يُراد لها أن تعيد تشكيل وعي شعبٍ حرٍ فتحوله إلى قطيع من الشاه الخائفين، الشاكرين للحاكم بأمره على ما يتصدق عليهم من فتات حقوق. في الأثناء، يبحث الفلسطيني اللاجئ في اليرموك وغيره من عناوين اللجوء، عن خلاص فرديّ بعد أن ضاقت به الأرض وجغرافيا السياسة ففقد عناوينه المعنوية والمادية وبات لا يجد مكاناً لدفن الأحبة في بلاد الأشقاء.
قانون القومية الإسرائيلي يشكل خطراً على إسرائيل كما قبلها وأحبها وروج لها الغرب بقدر ما تشكل خطراً على الفلسطيني أينما كان وعلى حقوقه الأساسية والإنسانية والوطنية. من هذا المنطلق، يشكل القانون امتحاناً للكينونة السياسية والثقافية الفلسطينية التي يمكن أن تحوّل الادعاء المزيف أنها نجحت تاريخياً في إضاعة الفرص التاريخية إلى حقيقة. هناك من لا يرى سبيلاً للتعامل مع ما يحدث من تغيرات وتحولات خطيرة ومتسارعة إلا بالاعتراف بالهزيمة وقبولها قدراً يسقط حق تقرير المصير عابرة. إنها طريقة المفلسين فكرياً وسياسياً، المسلّمين بتفوق الإسرائيلي وطغيانه قدراً. لكن هذا الفكر الانهزامي ليس قدراً والشعب الفلسطيني الذي لم تقوى على هويته كل موجات الظلم وطعنات الغدر، قادر أن ينتصر لنفسه إذا ما فرض إرادته على قبائله السياسية التائهة في صحراء الفلس الفكري. حريّ بنا أن ننهي التيه دون هذه المواجهة التي ستُطيل علينا الطريق وربما تُضيع علينا فرصة منّ الحرية وسلوى الوحدة.