حينما تناهت إلى سمعه جملتي هبّ عنترة من فوره وتقدم نحوي، وهو الفارس الذي يُحَجُّ إليه ولا يَحِج إلى أحد! تنبهتُ إذ رأيته واقفاً بمحاذاتي يخاطبني بكل لطفٍ ودماثة، الحق أقول أنني لم أتوقعهما من شخصية اتصفت بالقوة وتركت بصمة مهندها في ذاكرتنا وهو الذي استعار لمعة السيوف يصف بها ثغر عبلاه .. بل؛ ودَّ تقبيل السيوف حينما كانت بيض الهند تقطر من دمه وتنهل الرماح منه.
بادرني: " لطفاً سيدتي .. هل أعدتِ ما ذكرتيه توّاً؟"
قلت: لقد تحدثتُ في مواضيع شتّى فما الذي استنفرك وجذب سمعك؟"
قال: " قلتِ الثقافة مقاومة!"
قالها ويده مثبتة على مقبض سيفه المغمد، مثبتة تماما كما سبابة فدائي على الزناد مهما توالت الحقب وتعالت أصوات التفريط والحل المهين، سبابة لم يُصبْها خدر.
قلتُ: " وما وجه الغرابة في الأمر! نعم الثقافة مقاومة. إسمع يا سيدي .. هذي فلسطيننا التي وسمت الحضارة الإنسانية وعلى مدى التاريخ منذ الكنعاني الأول بالجمال .. طلّت علينا أم الزلف وقبل الأديان بثوبها الموشى تعلن الربيع بداية حياة. لا زال ثوبها عشتار إيقونة دالّة على فلسطين .. ما زالت حكايا عناة وزريف الطول حيّة في ذاكرتنا .. لم يغادر شعراؤنا وفنانونا على اختلاف مشاربهم أي مُتَرَدّمٍ ولم يتوهموا الدار بل؛ سكنتهم حتى ولو لم يسكنوا بها .. نعم يا سيدي الثقافة مقاومة .. ها شاعرنا المبدع محمود درويش سادن الشعر الفلسطيني المعاصر ما زال حاضراً رغم مضي عقد على رحيله .. ما زال متألقاً ذكره في عرس مهرجان الشعر الدولي من متوسط إلى متوسط. ما علاقة هذا بالمقاومة! قد تسألني .. لقد تم في العام الماضي تنظيم فعالية عالمية لإقامة مهرجان شعر لدول حوض البحر المتوسط في مدينة سيت الفرنسية تقدمت فلسطيننا ضمن الدول ومن خلال متحف محمود درويش .. كل دولة عملت جاهدة لتحظى بشرف إقامته على أرضها .. تم التصويت وكانت المنافسة في القائمة النهائية بين فلسطين ودولة الإحتلال الإسرائيلي .. نعم، جاءت نتيجة التصويت قاطعة وأبعدت دولة الاحتلال من أن تُحظى بهذا الشرف .. فازت فلسطيننا بجهود أبنائها المبدعين وطاقم العمل في متحف محمود درويش الذين عملوا بدأب وكد لأطلاق عرس ثقافي فلسطيني بامتياز. حضر الشعراء من معظم دول المتوسط، لكن الاحتلال أبى إلا أن يؤكد قبحه وبشاعته في منع بعض الشعراء من الدخول كونه المتحكم في نقاط العبور إلى فلسطيننا! لكنها إرادة الحياة والتحدي واليد التي تمتشق القلم والسبابة المثبتة على الزناد ولم يصبهما خدر، أطلقت الفرح وصدحت أصوات الشعراء تزين مغاني الحرية والمجد على أرض فلسطين.
الثقافة مقاومة يا سيدي .. نالت فلسطيننا شرف استضافة أحرار العالم من شعراء ومبدعين ما بقيت فلسطين وما بقي الفلسطيني والفلسطينية يحرسان نارنا المقدسة.
نحتفل هذا العام وكما كل عام واليوم تحديداُ الخامس عشر من شهر آب أو أب كما اسمه الكنعاني الأكّادي الذي يعني بلغة أهل الأرض النبت والثمر الناضج .. نحتفل بإطلاق النسخة الثانية من مهرجان الشعر من متوسط إلى متوسط هنا في كل من مدينة رام الله المحتلة والقدس المحتلة عاصمة فلسطين وبيت لحم المحتلة مدينة رسول السلام. نعم يا سيدي الثقافة مقاومة.