مازالت الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع حلفائها على أنها تتصرف داخل البيت الأمريكي؛ فالعلاقات الأمريكية مع أي دولة من الدول الحليفة هي علاقة خاصة خاضعة لرهن العقلية الأمريكية، وقد كشفت الأزمة الأخيرة في العلاقات التركية الأمريكية - التي ذهبت دول العالم إلى وصفها بالحرب الاقتصادية- عن عدة مؤشرات تتراوح بين الكشف عن ملامح استراتيجيات العقلية السياسية الأمريكية في التعامل مع دول العالم؛ فما الذي يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تفرض على تركيا الحليفة والعضو الدائم في حلف شمال الأطلسي ذات الجنس من آليات التقويض التي فرضتها على الصين، والتي تعتبر المنافس الأبرز على مستوى الاقتصاد العالمي؟ ويمكن النظر إلى هذه الأزمة في عدة مستويات على النحو الآتي:
أولا: حرب اقتصادية على الصين:
في كانون الثاني من 2018 رفعت الولايات المتحدة الأمريكية الضرائب الجمركية على واردات الصلب والمعادن الصينية، بالإضافة إلى قرار برفعها في تموز الماضي، إلا أن رد الصين على هذه القرارات كان عبارة عن تمثيل عملي لقانون نيوتن في الحركة "لكل فعل رد فعل مساوٍ له بالمقدار ومعاكس له بالاتجاه"، وبفعل إدراك الولايات المتحدة مقدار استنادها على الاقتصاد الصيني؛ ذهبت إلى تقويضه من خلال فرض العقوبات على كل من روسيا وإيران وتركيا، فهذه الدول تمثل حالة من ثنائية القطبية في العالم الذي لم تعد أمريكا الفعل الأوحد فيه كما شهدت الثلاثة عقود الأخيرة في أمريكا.
على الواجهة الأخرى من خلق العداوات الأمريكية مع دول العالم؛ تسير الصين بحكمة وكأنها تستند على تاريخها الطويل والذي يربو على ستة آلاف عام، فهي لا تتعامل بحكمة مع الولايات المتحدة الأمريكية فحسب بل تتعامل مع كافة دول العالم بروح من الصداقة والعمل الجاد، حيث غذت الامبراطورية التي لا تغيب عن بضائعها الشمس. فمقابل الضوضائية التي تتبناها السياسة الخارجية الأمريكية؛ تتسلح الصين بوجدانية سياسية هادئة ومؤمنة بذاتها تسير نحو الوصول إلى صين كبرى وعظمى في 2050.
ثانيا: أزمة الليرة هل هي القرصة أم الفرصة؟
تركيا التي تعرضت إلى هبوط بلغ عشرين بالمائة من قيمة عملتها مقابل الدولار؛ بدت للوهلة الأولى قوية، فالرئيس أوردوغان الذي وجه قبل عامين دعوته للمجتمع التركي لحماية ما أنجزته الدولة المدنية من مؤسسات ساعة الانقلاب لم يتوانى كثيرا في دعوة المجتمع لحماية استحقاقه الاقتصادي بذات الطريقة فالرسالة الإعلامية التي حملها المجتمع التركي للعالم تكشف عن رؤية تحذو بالمجتمع التركي لحماية المؤسسة الاقتصادية التي خطت خطوات قوية وكبيرة في السنوات الأخيرة.
هنا يمكن لتركيا أن تمر بالمراحل الطبيعية لأية أزمة وهي أن تستوعب ما جرى وتبدأ بالعمل على بناء سياسات خارجية أكثر استقلالا عن الولايات المتحدة، حيث يمكن لها أن تغدو هذه الأزمة فرصة لولادة تركيا أكثر استقلالا، لاسيما وأن مؤشرات المصارف الأوروبية الدائنة للشركات التركية لن تقف مكتوفة الأيدي، فموقف الجمهورية الألمانية مثلا والتي صرحت على لسان وزير اقتصادها عشية الأزمة أن هذه حرب اقتصادية تشنها الولايات المتحدة على العالم لا يبتعد عن هذا السياق خطوة واحدة.
ثالثا: الجغرافيا السياسية وخصوصية الخليج العربي.
يعتبر الخليج العربي للعقل الاستعماري والذي يفضل التبعية حالة مثالية في التعامل، فبمجرد أن وصول الرئيس الأمريكي ترامب للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية بدأت السعودية والإمارات بتطبيق مخططه الذي وضعه في برنامجه الانتخابي والذي كان يدعو إلى تحصيل أموال الخليج النفطية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ف 450 مليار دولار من السعودية لم تكلف الرئيس الأمريكي أكثر من زيارة وهذا ما يمكنه أن يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تكثف مساعيها في البحث عن تحقيق جغرافيا سياسية موحدة مع تركيا التي تختلف في نمط تبعيتها عن الخليج العربي.
في نهاية الأمر إن ما شهده العالم والسوق التركية من تذبذب في سعر الليرة لم يكن حدثا منفصلا سواء عن العقلية السياسية الأمريكية في علاقاتها مع الدول الأخرى أو عن ما يشهده العالم من تحولات في تلاشي تفرد الولايات المتحدة من السيطرة على العالم، فالعم سام الذي يفرض العقوبات على الحلفاء هو ذاته الذي يبحث عن عولمة موحدة لا تحتوي مقطوعاته الموسيقية إلا على نوتاته وخرائط الجينات الثقافية إلا على ذات الصفات التي يحملها هو.