الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عناكب الثَّقافة بقلم: أحمد أبو سليم

2018-08-16 12:07:38 PM
عناكب الثَّقافة
بقلم: أحمد أبو سليم
أحمد أبو سليم

هل على المثقَّف أَن ينزل إلى مستوى الشَّارع، أَم على الشَّارع أَن يصعد إلى مستوى المثقَّف؟

بوسع المتتبِّع للمشهد الثَّقافيِّ أَن يدرك بسهولة أَنَّ السُّؤال أَعلاه يقسم المنتج الثَّقافي إلى قسمين اثنين: أَحدهما مباشر، يُغازل الجمهور، والآخر غامض، معقَّد، وما بينهما مجرَّد محاولات إصلاحيَّة لم تستطع أَن تردم الهوَّة بينهما، أَو أَن تصبح حالة مستقلَّة بذاتها، فهي تارة تميل إلى اليمين، وتارة إلى اليسار.

ولكي نصبح قادرين، حين نتحدَّث عن الثَّقافة والجمهور، أَن نحدِّد بالضَّبط، من هو المثقَّف، ومن هو الجمهور، علينا أَن نعرِّف كليهما، ثمَّ نعيد طرح السُّؤال من جديد، ليصبح السُّؤال ذاته أَكثر وضوحاً.

لا يوجد في المجتمعات البشريَّة حركة ثوريَّة بالمعنى المطلق، والتَّاريخ البشريُّ لم يعرف نظاماً إجتماعيَّاً ثائراً بكلِّ ما فيه، فالمجتمع بالمعنى التقليديِّ لا يثور ضدَّ نفسه، فئة ما، تنويريَّة، عادة، هي الَّتي تأخذ على عاتقها مهمَّة التَّنوير، والتَّغيير، ومع ذلك، فلا يوجد حركة ثوريَّة بالمعنى المطلق أَيضاً، فكلُّ ما هو ثوريٌّ اليوم، هو رجعيٌّ غداً، وما قد يكون رجعيَّاً اليوم، قد يصبح ثوريَّاً غداً، ذلك رهن بحركة المجتمعات الَّتي لا تتوقَّف أَبداً، ما يجعل كلَّ حركة ثوريَّة قوَّة، في مرحلة ما، دافعة إلى الأَمام، وفي مرحلة أُخرى، قوَّة مُعيقة، حين يتجاوزها المجتمع.

من هنا بوسعنا القول إنَّ هناك كتابة وفنٌّ وثقافة متصالحة مع المجتمع، وأُخرى متمرِّدة عليه، الأُولى تمثِّل بنية المجتمع القائمة، بطبقاته، وشرائحه، والثَّانية هي الَّتي تمثِّل الفئة الثَّائرة عليه، سواء بالمعنى السَّلبيِّ، أَو التَّنويريِّ الإيجابيِّ.

ثمَّة حركتان لأَيِّ مجتمع بشريٍّ، إحداهما داخليَّة، مرجعيَّتها الذَّات المجتمعيَّة، وتاريخ المجتمع ذاته، والأُخرى خارجيَّة، مرهونة بمحصِّلة القوى المتصارعة داخل المجتمع، مرجعيَّتها المجتمعات الأُخرى، حيث تتمُّ مقارنة مجتمع ما، بمجتمع آخر، من أَجل قياس درجة تطوِّره، مع العلم أَنَّ العلاقة بين الحركتين هي علاقة جدليَّة، حيث ترتبط إحداهما بالأُخرى، خصوصاً في ظلِّ التَّطوِّر التكنولوجيِّ الَّذي يعيشه العالم.

أَمام هذه الرؤية نستطيع أَن ندرك بوضوح، حين نعيد طرح السُّؤال أَعلاه، أَنَّ المثقَّف ليس مثقَّقاً متجانساً، وأَنَّ الجمهور أَيضاً ليس جمهوراً متجانساً، فكلٌّ منهما جزء من فئة أَو منظومة أَو طبقة يعبِّر عنها، ويمثِّلها.

إنَّ المتتبِّع للواقع الثَّقافيِّ العربيِّ يدرك تماماً أَنَّ السَّواد الأَعظم من الجمهور هو جمهور أُميٌّ لا يقرأُ، بل إنَّ جزءاً كبيراً منه يرى في المثقَّف ساحراً، أَو حاوياً، أَو كافراً، أَو زائداً عن الحاجة لأَنَّ التَّشريعات الإنسانيَّة مكتملة وليست بحاجة إليه، ويرى في خطيب المسجد وكيلاً إلهيَّاً، مهما بلغت درجة سذاجته، وإن قرَّر أَن يقرأَ فسيقرأُ تفسير القرآن، والسِّيرة النَّبويَّة، على أَبعد تقدير، وسيقرأُها بتصوُّر مُسبق، وتأثير مسبق، وعقل مغلق على الأَغلب، محشوٍّ بالخوف الَّذي يُزرع في النَّاس منذ الطُّفولة من أَجل تقديس كلِّ ما يمتُّ بصلة للمقدَّس.

هناك إذن موقف مسبق من قبل الجمهور لكلِّ نظريَّة ثقافيَّة، وأَعني الجمهور الواسع، إذ يُخضع فطريَّاً كلَّ قول لموروثه، فإذا تطابق معه أَجازه، وإذا لم يتطابق معه، رفضه، وقد يكفِّره.

ثمَّة فئة أُخرى من الجمهور، هي الفئة الَّتي تدور في فلك الفنِّ والثَّقافة، جزء منها يتقاطع مع الجمهور الأُوَّل، وجزء منها يتنافر معه، وهي فئة قليلة جدَّاً عدديَّاً إذا ما قورنت مع الجمهور الأَوسع، هذه الفئة هي الجمهور الثَّقافي إن جاز التَّعبير، لكنَّ معظمها في الحقيقة كتَّاب، أَصبحوا يمارسون الكتابة على طريقتهم بعد تطوُّر مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، وتوسُّعها، وسقوط مرجعيَّات النَّشر، وانعدام المعايير الفنيَّة للنَّصوص، لذا تراه يتنطُّح للكثير من المسائل الاسترتيجيَّة دون فهم كاف، ودون معرفة، ودون امتلاك حتَّى لأَبسط الأَدوات، لذا ترى النُّصوص مليئة بالأَخطاء الإملائيَّة، والنَّحويَّة، عدا عن الأَخطاء المعرفيَّة طبعاً، والتَّسطيح في الطَّرح.

هناك إذن قطيعة تكاد تكون تامَّة بين الجمهور والثَّقافة، فالثَّقافة تدور في فلك مجموعة بعينها، أَو مجموعات، وتكتُّلات، كلُّهم كتَّاب تقريباً، وكلُّهم جمهور أَيضاً، وتعمل السُّلطة السِّياسيَّة بشتَّى الوسائل والطُّرق على دعم هذا الانعزال الثَّقافيِّ عن المجتمع، وتساهم أَحياناً في الخراب الثَّقافي لأَنَّها تدرك تماماً أَنَّ النهوض الثَّقافي يعني الوعي، وأَنَّ الوعي يعني المساءلة، والمحاسبة، لذا تجنِّد ما استطاعت من المثقَّفين، كما تفعل مع الرُّموز الدِّينيَّة لتجميل صورتها أَمام الجمهور، محاربة الثَّقافة الحقيقيَّة الَّتي تدعو إلى تنوير المجتمع، وتثويره.

ثمَّة قوَّتان تحكمان مجتمعاتنا، الأُولى هي القوَّة السِّياسيَّة المهيمنة، وهي قوَّة لا تمثِّل رؤيا الشُّعوب، قوَّة مستبدَّة تفرض استمراريَّتها بالحديد وبالنَّار، وبالتَّحالف مع القوى الاستعماريَّة، وتمتثل لإملاءاتها، والقوَّة الثَّانية، هي قوَّة المؤسَّسات الدِّينيَّة، والموروث، والعادات، والتَّقاليد، تحاول القوَّة السِّياسيَّة توظيفها من أَجل حماية مصالحها لإدراكها مدى سطوة هذه القوَّة، أَمَّا القوَّة الثقافيَّة فهي شبه مهمَّشة ما لم تصبّ في صالح النِّظام السِّياسيِّ القائم.

إن كان السياسيُّ هو اليوميُّ، الممكن ولو مؤقَّتاً، والثَّقافيُّ هو الاسترتيجيُّ، والحلم، فإنَّ من شأن تأطير الثَّقافيِّ ضمن رؤية السِّياسيِّ أَن يجهض دور الثَّقافة، ويقتل الحلم.

إن الكتابة فعل خلق مواز للواقع، يدخل في أَعمق تفاصيله، ويطرح أَشدَّ الأَسئلة تعقيداً، ويقترح بطريقة ما شكلاً للبناء الإنسانيِّ، وهو فعل يتحدَّى بطبيعته البنية الَّتي اعتاد عليها المجتمع، يعيد ترتيب الموروث بناء على المتغيِّرات، والرؤيا، تلك هي الكتابة المتمرِّدة على المجتمع، وهي عادة ما تكون مرفوضة، لأَنَّها تتحدَّى المألوف، وطريقة تلقِّي الموروث، وهي إحدى القوى الَّتي لا يُستهان بها عادة في المجتمعات البشريَّة، لإنَّها بالذَّات، القوَّة الَّتي من شأَنها أَن تؤسِّس للطفرات في المجتمع، وتغيير بنيته، وهي بحاجة إلى روافع كي تصبح هي خلاصة الحركة، وهي نقيض الكتابة المتصالحة مع المجتمع تماماً، تلك الَّتي لا تتجاوز بوعيها وبآفاقها ما يجري في المجتمع، الكتابة المتصالحة على الأَغلب مع النِّظام السِّياسيِّ، والدِّينيِّ السَّائد، لذا فهذه الكتابة بالذَّات هي الَّتي تجد الدَّعم والتأييد، فترى رموزها يتربَّعون على عروش الثَّقافة، في كلِّ بلد، يشجُّعون على التَّهريج الثَّقافيِّ، ورداءة الذَّائقة، ويساهمون في وضع المناهج للطلاَّب، ويروِّجون إعلاميَّاً بالتَّحالف مع السُّلطة السَّائدة، وحتَّى مع جهات ثقافيَّة مشبوهة، وعلى رأسها "إسرائيل" لثقافة بعينها دون سواها، ويحاولون استقطاب الأَقلام الجادَّة مقابل المال، في محاولة لإعادة تشكيل الوعي ببطء، وهدوء، دون أَن ينتبه أَحد إلى ذلك.

إنها ثقافة الخراب.

إنَّ الهزيمة السياسيَّة أَو العسكريَّة هي هزيمة مؤقتة، يمكن للشُّعوب أَن تنهض بعدها، أَمَّا الهزيمة الثَّقافيَّة فهي هزيمة قاسمة، قاتلة.

ثمَّة على جهة إذن عناكب الثَّقافة، مدجَّجون بالمال والإمكانيَّات الإعلاميَّة، والدَّعم المطلق، من الدَّاخل والخارج، ينصبون شراكهم لكلِّ صوت واعد، ويحاولون دفع المجتمع باتِّجاه بعينه، يروِّجون للرَّديء، ويغتالون الرُّموز، ويحاربون أَيَّة ظاهرة ثقافيَّة حقيقيَّة تدعو للنُّهوض بالمجتمع، وعلى الجهة الأُخرى مثقَّفون مشرذومون، فُرادى، مُحارَبون، بحاجة ماسَّة لأَن يجدوا طريقة كي يخلقوا مؤسَّساتهم الخاصَّة الَّتي تعبِّر عنهم، وتوصل أَصواتهم للنَّاس، وتخلق حالة من الاستقطاب الثَّقافي، أَمَّا على صعيد السَّواد الأَعظم من الجمهور، المهمَّش، الأُميَّ، الَّذي لا يعنيه لا المثقَّف ولا الكتاب، فهو بحاجة إلى لغة خاصَّة، تأتي من عمق الدِّين، للتتوازى مع موجة التَّجهيل الَّتي يقودها مجموعة هائلة ممَّن يعتبرون أَنفسهم ممثَّلين للدِّين، وذلك لا يمكن له أَن يتمَّ إلاّ من خلال خلق هذه المؤسَّسات الَّتي تُخاطب العقول بطريقة أُخرى....مختلفة، وتصبح هي الندَّ للمؤسَّسات الثَّقافيَّة والإعلاميَّة الَّتي تمارس غسيل العقول....وتعمل على  خلق مواطن جديد، مدجَّن بقناعته، وبرضاه.