تكاد لا تخلو أحاديثنا أو ما يتفرع عنها من شجونٍ من إتيان على موضوع الحرية، تلك الغاية المراوغة التي لم نعرف أو نعرَّف، لا سيَّما نحن الفلسطينيون، فلم نجد حتى الآن سبيلاً لنصل بوطننا السليب إلى ميناء الحرية، ناهيك عمَّا يساورنا من أضرب اللاحرية، إذا جاز التعبير، أكانت مما نفرضه على أنفسنا طوعاً أم يُفرض علينا كرهاً.
في ظاهرها تبدو الحرية كما لو كانت ما نقوم به دون قيد أو شرط، لكن ماذا عن إيماننا بقيمة الانضباط كأحد ركائز التعايش، أليس فيه تقييدا للحرية ’المطلقة'، أم لعله أقل مُحددات الحرية ضرراً على الفرد، فضلاً عن منافعه التي تفوق سلبياته، وهذا يقودنا لضرورة التريث قبل تشريع الأبواب لبعض الحريات؛ لما قد ينطوي عليه ذلك من سلبيات لا تُحمد ولا تُرجى عُقباها، دون أن يُفْهَم من ذلك عدم الالتفات لنوعّية الحرية المتاحة أو المبتغاة، وفي هذا السياق أود التطرق لأربعة من أشكال الحرية سبق لي وأن خضت غمارها ولامستها في محيطي.
حرية الفكر
من الجلي أن أفكارنا ليست حرة وسرعان ما تصطدم بالأسقف التي نبنيها في خيالاتنا، قانعين بأن هذا السقف أو ذاك هو الحد الذي لا يجب تجاوزه، كذلك هي بنات أفكارنا الغارقة في الواجبات الاجتماعية، والعائلية، والثقافية، والمهنية والكثير الكثير مما قد يحد من الفكر والتفكير. هذه الحدود أيضاً لها قولها في رسم مسارنا باتجاه أسباب السعادة والتعاسة. ولعل الاحتلال الفكري أخطر أنواع الاحتلال؛ إذ يعمد هذا الضرب من الاحتلال إلى غسل الأدمغة وإعادة برمجتها في خدمة مصالح وأجندات محددة، ويمكن مواجهة هذا الاحتلال أولاً بإدراك وجوده ومن ثم عقد القرار لتحرير العقل وصولاً لحرية الفكر.
وإن اخترنا التحرر، فهناك من سيرى في قرارنا تمرداً؛ لتبدأ بذلك عملية المساومات الذاتية لإرضاء الذات والمحافظة على دائرة الأهل والأصدقاء التي تحيط بنا دون أي تأثير. ومن هنا ليس ثَمة حرية مطلقة، بقدر ما نحن بحاجة إلى أرض مشتركة تتسع لحريتنا ضمن سياق وجودنا.
حرية التعبير
نجد الكثير مما قيل في حرية التعبير، وكم هي المؤسسات المناصرة لحرية التعبير في مختلف المجتمعات. تلك الحرية التي يجدر بنا ألَّا نختزلها بقول الشخص لما يريد، بل هي تتجاوز ذلك إلى جهر الإنسان بما يفكر به والسعي للتعبير عنه بقوة الكلمة. قد لا ينطوي مفهوم حرية التعبير بالضرورة على شرط تحرر الأفكار وإدماجها مع التعبير عنها والجهر بالفكر، وليس بالضرورة أن يكون الأخير على الملأ، بل أن يواجه صاحب الفكرة مكنوناته وأن يتمكن من التعبير عمَّا يريد لنفسه في المقام الأول قبل الآخرين.
في الواقع، تزداد حرية التعبير صلابة كلما اقترنت بالهدوء ورباطة الجأش؛ فالغضب يُوهن ويكبل التعبير، فكلما تحررنا من الغضب أثناء التعبير علت قيمة ما نعبر عنه، بدلاً من الانغماس في مشادات جانبية لا تصب ولا تخدم صلب الفكرة التي نعبر عنها.
حرية التنقل
جغرافيا كانت أم فكريا، فإن التنقل يوفر الكثير من الفرص لتوسعة المدارك، فعند سفرنا نستعيذ بالله من سوء المنقلب وكآبة المنظر، وفي المقابل، نتعرض لما يوسع آفاق تفكيرنا ويصقل عقليتنا ويدفعها للتحرر والانطلاق. حيث نرى ثقافات مختلفة وعوالم متنوعة فيها ما فيها من تكنولوجيا وتقدم والأهم من ذلك إعلاء لقيمة الإنسان، لتشكل هذه الحرية أداة لنحت الفكر والارتقاء بصاحبه إلى مقومات العيش الكريم المكلل بالرضا الذاتي.
حرية الحياة
ما هي أساسا حرية الحياة؟! هل هي أن يختار الإنسان الحياة أم الموت؟ أم أن يختار حياة حرة وكريمة؟ أليست الحياة الحرة هي الحياة ذات القيمة؟ الحياة التي تُقدر صاحبها الذي يعيشها بكل جمالياتها. من منا لا يريد ذلك! قد أجزم أن غالبيتنا يسعى لهذه الحياة، ولكن نجد من الناس من يختار اللاحرية بيديه ويختار تكبيل يديه، والخضوع لظروفه، أو اجتماعياته، أو حتى أحلامه.
هل نريد حرية الفكر التي تقودنا إلى حرية التعبير وحرية التنقل الفكري والجغرافي لتَحقُق وممارسة حرية الحياة؟ أم نريد دائرة الأمان خاصتنا دونما تغيير وإن كان للأفضل؟
الحرية صناعة يدوية ذاتية بامتياز تتطلب التفرد في صناعتها والاحتراف في استخدامها، وصناعتها ستكفل بالضرورة بقائها بيد صانعها وألاَّ تُستلب منه أبدا.