أنه وأثناء تجوالي في أرض الله التي ضاقت عليّ بما رحبت باحثاً عن موقع يليق ببني قومي ذي كلأ وماء.. مكانٍ فسيح يستوعب ما غنمناه في غزواتنا على القبائل التي تجاورنا وتشاركنا الدم؛ إذ تلك هي عادات بني قومي منذ عدنان وقحطان! سرتُ في طريقي أقلّب الفكر والنظر فيما آلوا إليه وأضحوا عليه. فمنذ خمسٍ وعشرين سنة ونحن نراوح ذات المكان.. لا بل عدنا إلى الخلف وتبددت مكاسبنا بل وتقلصت مساحات مراعينا ومخزون مائنا.. وتمادى علينا أعداؤنا لانخفاض سقوفنا وقلة درايتنا وتولي الرويبضات زمام أمورنا.. نترحم على أرواح كل من فكر خارج الصندوق وابتدع نهجاً غاير المألوف.
قال عنترة أنه وخلال تجواله تناهى إلى سمعه حوار بين أعرابيٍ بدت عليه علامات نعمة بائدة وعز لم يبق منه سوى جملٍ هزيلٍ ذاب شحمه ووهن، كسير النظرة حزينها، مضّه الجوع وأعياه التعب. اقتربت من الأعرابي وجمله فهالني ما سمعت ورأيت! جلس الأعرابي مقعياً قبالة الجمل يستعطفه ويرجوه: يا جملي يا جمل المحامل لقد استغليتك وحملتك فوق طاقتك.. شبعتُ أنا حتى أُتخِمتُ وحرمتك.. تسلمتُ المنح والعطايا والهِبات على اسمك، استحوذت عليها جميعاً، شاركت من أجلك في لقاءات ومؤتمرات وورشات عمل في بقاع شتى وتركتك تأمل بغد أفضل ولم يأت هذا الغد. والآن وأنت في أواخر ساعاتك في هذه الحياة الفانية أرجوك أن تسامحني.
رغى الجمل وبصوت واهن أجاب صاحبه؛ قاطعته: وهل يا سيدي تتكلم النوق والأباعر! أم ربما أصابك من الهذيان ما أصابك وأنت تجول الصحراء العربية هائماً باحثاً عن مأوى وناشداً يداً تساندك وقد تكالبت عليك الأنواء من ذوي القربى والأعداء. قال: حلمك علي سيدتي.. في زمن العجائب توقعي ما ليس مألوفاً.. في زمن الهرم المقلوب لم يعد منطق العقل هو المطلوب! نعم كان الجمل يعاتب صاحبه يقول: ما همني أنك ومنذ خمس وعشرين سنة حمّلتني فوق ما أحتمل.. ما همني قطع الفيافي والقفار وقد نفذ مائي وواصلت.. ما همني تقليصك حصتي من العلف بل وحتى حرماني من معظمه لتمنحه لمريديك من باقي القطيع.. ما همني أنك تمد يدك وتهدر ماء خفيّ في سبيل استجداء بعض المنح التي بددتها على مدى خمس وعشرين سنة وما زلت، لا يصلني من حقي فيها سوى النزر اليسير.. ما همني كل هذا وذاك؛ إن ما همني يا سيدي وآلمني ولم أعد أقوى على ما اتصفتُ به من تحمل وصبر هو أنك ربطتني بذيل حمار.