أَسهل الحلول في الحياة، تلك الَّتي يمكن أَن نطلق عليها الحلول الجاهزة، أَن تحيل كلَّ ما لا تستطيع تفسيره إلى مرجعيَّة غيبيَّة بوسعها استيعاب الكون وما فيه، وأَصعب تلك الحلول، اللُّجوء إلى التَّفكير، من أَجل تفسير ظواهر قد تبدو للوهلة الأُولى مبهمة، عصيَّة على التَّفسير.
قد يبدو من نافل القول إنَّ الشكَّ هو عنوان القلق، واليقين حالة من السَّكينة والطمأَنينة، وإنَّ الطَّبيعة البشريَّة تميل إلى اليقين أَكثر، تفتِّش عنه، تتماهى به، تبحث عن مرجعيَّات ثابتة ليصبح بوسعها تحديد إحداثيَّات وجودها، واتِّجاهات حركتها، فإن لم تجد هذه المرجعيَّات، افترضتها، وأَضفت عليها صفات خاصَّة، استثنائيَّة، كي تؤهِّلها لتصبح مرجعيَّات.
ما دمت أَشكُّ فأَنا أُفكِّر، وما دمتُ أُفكِّر، فأَنا إذن موجود.....تلك الحقيقة الوحيدة-مبدئيَّاً- الَّتي لا يمكن لي أَن أُشكِّك بها، وبوسعي أَن أَنطلق منها لتفسير الغيب، والكون.
هكذا لخَّص رينيه ديكارت الأَمر قبل أَربعمئة عام، مدشِّناً عصراً جديداً أَساسه التَّفكير.
قد يبدو الواقع أَسهل حين يُحكم بلونين متضادَّين، الأَبيض، والأَسود، لكنَّه في الحقيقة ليس كذلك، ثمَّة لكلِّ لون منهما درجات، وثمَّة طبقات لامتناهية من الأَلوان بينهما، وذلك ما يُعطي للنَّسيج الكونيِّ تميُّزه، وعمقه، خصوصاً وأَنَّ هذا الوجود ليس ثابتاً، بكلِّ ما يحوي، بما في ذلك المجتمعات البشريَّة أَيضاً.
من هنا، قد يبدو من العبث أَحياناً وضع مقاييس ثابتة للماهيَّات، والمفاهيم، ومن هنا أَيضاً قد يبدو قانون الهويَّة الَّذي قرَّره أَرسطو ضيِّق الرؤية، وحتَّى الدِّيانات السَّماويَّة، أَقصى ما وصلت إليه هو تجسيد القيم المطلقة بشخص الإله الَّذي ليس كمثله شيء، ولا أَحد، فكان ذلك قراراً ضمنيَّاً بعجز البشريَّة عن التمثُّل ضمن أَيِّ مفهوم مطلق، وهو ما عبَّر عنه أَيضاً أَفلاطون في نظريَّة المثل، مع أَنَّ العقل البشريَّ، بكلِّ ما وصل إليه، لم يستطع أَن يحدِّد تماماً هذه المفاهيم، وأَن يستوعبها، وأَن يتَّفق عليها، ولم تستطع اللُّغة ذاتها أَن تعبِّر عنها ضمن قدراتها الملموسة، فبقيت مجرَّد إشارات غامضة كلَّما حاول الوعي استيعابها، وتصوُّرها، والتَّعبير عنها، فشل.
ثمَّة مجموعة من الزَّوايا الزمكانيَّة الَّتي يمكن أَن ننظر إلى المفهوم ذاته من خلالها، ونفسِّره في كلِّ مرَّة بطريقة مختلفة، وصولاً إلى تفسير نقيض تماماً في بعض الأَحيان.
فصدق عبارة ما، هو صدق نسبيٌّ، خاضع للماهيَّة، والوسط المحيط، والوعي، ف 1+1= 2 مثلاً، هي معادلة مجرَّدة، صمَّاء، حقيقة رياضيَّة تبدو مطلقة لكنَّها ليست كذلك، ففي الرِّياضيَّات ذاتها سنقول إنَّ س+س=2س لكنَّنا سنقول إنَّ ∞+∞=∞، وهذه العبارة ربَّما تميل كثيراً، رغم الشَّكل الرِّياضيِّ لها، إلى الميتافيزيقا، فبمجرَّد أَن تقول إن الله+الله= 2 الله ستنقلب الدُّنيا على رأسك، وستُّتهم بالكفر والزَّندقة في عقيدة التَّوحيد.
ذلك أَيضاً ما بدا واضحاً جدَّاً حين نادى كلٌّ من ماكس بلانك، وآينشتاين قائلَين إنَّ الضَّوء يمكن أَن يكون موجة ويمكن أَن يكون سيلاً من الفوتونات، فالفوتونان أَو الإلكترونان، قد يتحوَّلان في لحظة ما إلى موجة، وينسفان قاعدة 1+1=2.
لا مفاهيم مطلقة، ولا حقائق مطلقة، كلُّ ذلك مرهون بوعي مسبق، والصِّفر الَّذي تقرَّر أَن يكون لا شيء، هو ذاته الَّذي يرفع قيمة العدد عشرة أَضعاف حين يوضع إلى جانبه، فكيف يمكن للاشيء أَن يكون كلَّ هذا الشَّيء، بل شيئاً يقودك ضمن متلازمة التكرار التَّراكمي إلى المالانهاية؟
أَهلاً بك في عالم الجنون، عالم الكلمات المتقاطعة، أَهلاً بك في عالم الأَسئلة، عالم المعرفة الَّتي لن تقودك إلا إلى جهل أَوسع، وأَسئلة أَكثر، كأَنَّك في متاهة اخترتها بنفسك، وقرَّرت أَن تبقى فيها عن سابق وعي وإصرار.
أَنتَ الآن أَمام خيارين، أَن تنسحب، أَن تخرج، أَن تسلِّم بكلِّ ما هو غيبيٍّ، وترتاح، أَو أَن تتبع فضولك، تواصل اللِّعبة، فإذا قرَّرتَ ذلك، عليك أَن ترضى بالنَّتائج.
نحن ندافع عن مفاهيم ورثناها عن آبائنا، وأَجدادنا، دون أَن يكون لنا حريَّة الاختيار، فبمجرَّد ولادتنا من أَبوين بعينهما، في مجتمع بعينه، نكون قد ورثنا لون البشرة، واللُّغة الأُمَّ، والدِّين، والعرق، والعلم، والوطن، ونظام المجتمع، ويصبح علينا فيما بعد أَن ندافع عن كثير من هذه الموروثات، وأَن نموت من أَجلها، لأَنَّها على الأَغلب، تصبح بالنِّسبة لنا، حقيقة مطلقة.
فهل يوجد ثمَّة حقيقة مطلقة؟
نعم، يوجد، هو أَنَّنا نشعر بالدَّوار، وعدم الاتِّزان، والضَّياع، إذا لم نُوجد هذه الحقائق، كي نحدِّد بالضَّبط موقعنا من محاور الحياة، على النِّظام الإحداثي الدِّيكارتي، ونركن إليه....تلك هي حقيقة الإنسان منذ أَن بدأَ وعيه، وصار يحاول تفسير الكون، ونفسه، لكنَّه مع ذلك لم يستطع أَن يقدِّم تفسيراً واحداً لمفهوم يتَّفق عليه اثنان، فالعدل، نسبيٌّ، متغيِّر، لذلك هناك قيمة ما للعدل، مطلقة، لدى المؤمنين بالميتافيزيقا، لكنَّها غيبيَّة، إلهيَّة، قابعة في مكان بعيد، في المالانهاية، لا يمكن للبشر بلوغها، لأَنَّ البشريَّة الَّتي نادت بمفهوم المالانهاية، لم تستطع أَن تقدِّم تفسيراً مقنعاً لهذا المفهوم، وهناك قصور اللُّغة الَّتي تدور حول المفاهيم كافَّة، لكنَّها لا تقبض على جوهرها، فما ينطبق على العدل، سينطبق على الحبِّ، والإخلاص، والكره، والخيانة، والوطنيَّة، والرَّحمة الخ....وسنجد أَنَّ مفاهيم كالفنِّ، والأَيديولوجيا، والثَّقافة، تندرج ضمن ذلك أَيضاً، ويتوُّجها مفهوم الخالق ذاته، كلُّها مفاهيم متحرِّكة بلا ملامح نهائيَّة.
سيقودنا ذلك حتماً إلى مجموعة هائلة من الفراغات المعرفيَّة الَّتي ما فتئ الإنسان يتركها خلفه، والعيب ليس في هذه الفراغات، بحدِّ ذاتها، فوجودها منطقيٌّ، لكنَّ العيب في مجموعة الافتراضات الوهميَّة الَّتي اقتُرحت لملء بعض هذه الفراغات، كنقاط ارتكاز، من أَجل التأسيس لمعرفة لاحقة، ما يدعونا إلى العودة إلى الخلف، قليلاً، من أَجل إعادة دراسة هذه المقترحات، وتمحيصها، ودراسة ما انبثق عنها من معرفة، ووضعها تحت المجهر، لأَنَّ ما بُني على فراغ قد يحتمل الصحَّة، كما حدث ذلك أَثناء اكتشاف الجدول الدَّوريِّ في الكيمياء، وبعض النَّظريَّات الفيزيائيَّة، ولكنَّه قد يحتمل الخطأَ أَيضاً، ذلك رهن بماهيَّة الشَّيء الَّذي سيملأُ هذا الفراغ، إن كان سيعزِّز من الفرضيَّة أَم سينسفها، ورهن بالمعرفة التَّالية، وما قد ينبثق عنها.
ثمَّة جهات في المجتمعات، وظيفتها حراسة المجتمع من التَّفكير الحرِّ، وملء هذه الفراغات، لخوفها المسبق من النَّتائج، مهما كانت هذه النَّتائج....لأَنَّها ترى أَنَّ النَّتيجة قد تجرِّدها من وجودها تماماً، وليس من سلطتها، ونفوذها فحسب، ما جعلها تدعو لتقديس اللامقدَّس، وتقود المجتمع في حركة دورانيَّة عبثيَّة معلَّقة بنقطة ثابتة في التَّاريخ، معتبرة أَنَّها النُّقطة الأَكثر توهُّجاً، فلا تقود الحركة إلاّ إلى المكان ذاته الَّتي انطلقت منه، وأَعني هنا، تقديس مرحلة زمنيَّة بعينها، بواقعها، وشخوصها، وأَحداثها، وربط حركة المجتمع بشكل مطلق بها، وكأَنَّه في حالة طواف، وعبادة، ما يعني أَنَّ الشُّغل فيزيائيَّاً يساوي صفراً، وإن بدا وكأَنَّه لا يساوي ذلك.
في مثل هذا الواقع، يصبح التَّفكير حالة ثوريَّة بحدِّ ذاته، لأَنَّه، وحده، بوسعه أَن يكسر حالة الجمود، ويشكُّل البعبع المخيف، ليس للجهات المهيمنة فحسب، إنَّما للجمهور ذاته الَّذي أَدمن حالة الطَّواف- كحركة- وصار مقتنعاً أَنَّها مسأَلة عبادة، منطلقاً من مبدأَ الخوف من المساس بما قد يزلزل معرفته، ووعيه، وبالتَّالي فقدانه المرجعيَّات، وشعوره بالضَّياع، واللاَّتوازن.
يُتبع.....