تكمنُ إشكاليَّة صياغة الوعي – بما هو عام - في طبيعة التَّصوُراتِ الذِّهنيَّةِ الأساسيَّة المُسبقة التي تفرض على العقل قاعدة معيَّنة أو جملة من القواعد النمطيَّة في التَّفكير تجاه الذَّات والواقع؛ وبطبيعة الحال يصبح العقل أسيراً للتنميط في تصور الأشياء؛ فالتَّصَوُّرات الذِّهنيَّة هي بمثابة الخرائط الَّتي نرسمها في أذهاننا للواقع الَّذي نعيش فيه؛ أو نستهدف الوصول إليه؛ وهي تتضمن أيضاًو في جانبٍ من جوانبها صورةً عن الذَّات؛ وعندما تكونُ هذه الخرائط غير صحيحة ومُشَوَّهة؛ أو تحمل أسماءً وعناوينَ غير مطابقة للواقع الفعلي؛ فإنَّها تُعطي صوراً مُضلِّلة سواءً على مستوى تصور الذَّات أو تصور الواقع الموضوعي المستقل؛ وبالتَّالي لا تصلح هذه الخرائط المُتأتِّية من التصورات الذهنيَّة كدليل يُسْتَرْشَدُ به، وهي تؤدِي في الغالب إلى سلوك طرقٍ غير صحيحة لا تُوصلُ إلى أيِّ نتيجة منطقيَّة.
لقد تمَّ صياغة وعْيِنا وعبر حِقَبٍ تاريخيَّة مُتَّصِلة؛ ضمن بنيان عاطفيٍ و انفعاليّ يغرق في تعيين وفرض اليَنْبَغيَّات النظريَّة والتَّجريديَّة كقاعدة – بمعنى، ينبغي فعل هذا ولا ينبغي فعل ذاك، فحسب - ولم يتم صياغة ذلك الوعي على أساسٍ عقلاني منطقي أو إدراكي بعيد عن النمطيَّة والانفعال والأفكار والأحكام المسبقة. وقد تمَّ صياغة الإطار العام لوعينا العربي إمَّا في بيئةِ الاغتراب والغياب عن سياق التَّطوُّرات والتَّحوُّلات المنهجيَّة الكبرى والديناميكيَّة الَّتي اعتَرَت العالم على صعيد المعرفة والعلوم والثقافات الإنسانيَّة والمسارات الحضاريَّة والمدنيَّة، حيث واصلت تلك التحوُّلات مسيرتها التراكميَّة منذ أواسط القرن السَّادس عشر الميلادي وحتَّى الآن، هذا من جانب، أو تم صياغة جزء مهم من ذلك الوعي في بيئة الرِّدة الانفعاليَّة عن كل ما يتصل بالذات الحضاريَّة والتاريخيَّة، والاغتراب عن الذَّات الثقافيَّة والحضاريَّة والانفصام عنها لحساب التَّقليد الأعمى والتَّقمُّص الذي بدا تهكُّميَّاً زائفاً في كثيرٍ من الأحيان من جانبٍ آخر؛ مِمَّا أدَّى إلى أنْ تعيش الشخصيَّة العربيَّة في منطقتنا على مستوى الثقافة والوجدان والسلوك إمَّا حالة تشنُّج وجمود، أو حالة انفصام وعدم صلة بالأصالة الثقافيَّة التي كانت بحاجةٍ ولا شك إلى أنماط جديدة من المرونة والتَّكيُّف؛ وقد تَبدَّى ذلك في واقع أزمة صياغة الهويَّة والانتماء في بيئة التَّخلُّف والاغتراب الحضاري؛ وفي واقع ضعف الإرادة؛ وفي حالة فقدان التوازن، وكذلك في حالة الضعف في مواجهة التحدِّيات الدَّاخليَّة المُتَّصِلة بواقع التجزئة المُزْمِنْ وبحاجات النُّمو الاجتماعي والمعرفي والاقتصادي وفي مختلف ميادين التنمية الشَّاملة المفترضة؛ وقد تكرَّس ذلك بواقع العجز عن استثمار موارد وثروات الأقطار العربية وتوزيعها بشكل عادلٍ؛ أو وضعها ضمن الإرادة العربية الحرة والمستقلَّة وضمن صيغ من التعاون الحقيقي والتكامل الفعَّال. وهذا قد أصبح الحديث فيه الآن ضربٌ من الأحلام.
لقد جاء التفاعل الثقافي مع الآخر الغربي الأوروبي، على سبيل المثال - وهو المثال الأساسي هنا - وسواءً كان ذلك التفاعل سلبيَّاً رافضاً انفعاليَّاً لتلك الثقافات الغربية، أو متقمِّصاً ومقَلِّداً لها؛ على قاعدَةٍ مشتركة، من قِبَلِ كلا الفريقين، الرَّافض والمُتقمِّص – وهذه القاعدة المشتركة قامت على أساس عدم فهم السياق المنطقي والتاريخي لانبثاق تلك الأنماط الثقافيَّة الغربيَّة، أو عدم وضعها في سياقاتِها تلك أساساً، لجهة تحديد وفهم موقف تلك الثقافات من الفكر والفلسفة والدِّين، ودور الدِّين ضمن ظروف أوروبا القرون الوسطى في إعاقة تلك المجتمعات قروناً من الزَّمن، وكذلك لجهة تحديد هوية ودور الحركة الفكريَّة والثقافيَّة لجهة التغيير الثوري والانقلابي للأوضاع الطبقيَّة الاجتماعيَّة وتغيير منظومة علاقات الإنتاج الاقتصاديَّة التي كانت قائمة هناك. لقد كان من الضروري – بل يبقى من الضروري دائماً – فهم تلك السياقات منطقيَّاً وتاريخيَّاً والتَّبَصُّر بها قبل تحديد المواقف الانفعاليَّة تجاه مجمل ما أفرزته الثَّقافات الغربيَّة على الصَّعيد المعرفي الإنساني وما احتوته تلك المُفرزات من تنوُّعٍ أو تناقضات، أو نمطيَّاتٍ خاصَّة بهويَّة الثقافات الأوروبيَّة أو الغربيَّة، أو ديناميكيَّات مَرِنة احتوتها وأسهمت في إدامة حيويَّتها وتأثيرها البارز.
وقد كانت منطلقات وصيغة التَّعامل الانتقائي من جانب أو الانفعالي من جانبٍ آخر فيما يتصل بالتَّعاطي مع الثقافات الخارجيَّة والقوى الغربيَّة المهيمنة ذات علاقة جدليَّة وأساسيَّة – على نحوٍ سلبيٍّ باستمرار – فيما يخص القابليَّات الذاتيَّة والقدرة على التعامل مع التحديات الخارجية المتمثِّلة بواقع الهيمنة والسيطرة الأجنبيَّة؛ وفقدان الدَّور الفاعل والافتقار إلى أي فاعليَّةٍ حقيقيَّة في مجريات السِّياسات الإقليميَّة والدوليَّة؛ التي تُلقي في الغالب بآثارها وتفاعلاتها على امتداد مساحات الوطن العربي؛ الَّذي هو ملعبها وهدفها في آنٍ معا كما نرى الآن بوضوح.
حتَّى الآن لم يتم تناول إشكاليَّة الوعي لدينا بجرأة وبموضوعيَّة وضمن سياقها التاريخي، كسببٍ وكنتيجةٍ في آنٍ معاً، وذلك بكل ما يتصل بمكونات الثقافة الدينيَّة والاجتماعيَّة أو بما يتَّصل منها بحقيقة المشاعر القوميَّة والوطنيَّة؛ حيث تعوم تلك المفاهيم في فضاء الشعارات والأطر النظرية غير محددة المعالم، فحتَّى الآن لم يتم تناول كثيراً من المفاهيم بالمراجعة الجديَّة على قاعدة أصلها السيكولوجي – بما يفرضه علم النَّفس الجماعي – أو على قاعدة أصلها السوسيولوجي – بمعنى مجموعة القواعد والنُّظم والقيم التي يتحرَّك ضمنها المجتمع أو تلك التي تحكم حركته - ولمْ يتم امتلاك الجرأة لمراجعة الموروث الثقافي الديني في سياقه التاريخي بشكل سليم، بعيداً عن منهج الاعتقاد بالصِّحة المطلقة لكثير من جوانب ذلك الموروث من جهة، وعدم محاولة التمييز الجريء بين ما هو إنساني وبين ما هو إلهي من بين تلك النُّصوص.
وعلى كل حال لم يتم إلى الآن الإشارة وبكل صراحة إلى أنَّ تلك الإشكالية تتعلَّق وبشكل أساسي بمسألة العجز عن التمييز بين ما هو استراتيجي من أهداف وعلاقات في البيئة الإقليمية والدولية وبين ما هو ثانوي من أهداف، وطارىء من علاقات في البيئة المحيطة دولياً وإقليمياً ، وذلك يتصل، وفي الأساس، بأنماط الإدراك التي يفرزها ذلك الوعي من رؤية انتقائية ونمطيَّة متشنِّجة، لا تساعد على مواجهة تحديات النمو والتطور والتفاعل الصحيح مع العوالم المحيطة.
لا يزال وعينا العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً أسيراً للتفسيرات التبريريَّة والمتافيزيقيَّة – ما وراء طبيعيَّة - لتاريخٍ طويل من الإخفاقات؛ وغير مستعد لمناقشة عوامل ومفاعيل التجارب التاريخية الفاشلة على صعيد الثَّقافة والسِّياسة والأداء الجماعي، وعلى هذه القاعدة شاهدنا قوَّة التأثير السَّلبي للتمسُّك بالشِّعارات العائمة في فضاءِ العجز والإخفاق، وشاهدنا التَّمسُّك بمفاهيم سياسيَّة ليس لها واقع، وكلّ تلك الشِّعارات والعنتريَّات ما تزال تطفو على سطح الوعي والعقل والسلوك العربي والفلسطيني طيلة عقود طويلة من الزَّمن.
لقد تمَّ إطلاق كل هذه الشعارات على ضفافِ الحركات القومية والوطنية واليسارية والإسلامية على حدٍّ سواء دون برامج تفصيلية حقيقية؛ وبغير إطارٍ منهجي فلسفي وواقِعي وعملي يتصدَّى لحل المسألة الأساسية المتصلة بكيفية إدراك الواقع والتعامل مع عوالم مُتحوِّلة من حولنا على أسس صحيحة، وبكيفية صياغة الوعي، وصياغة التَّصَوُّرات الذِّهنيَّة بعيداً عن منطق التحيُّز الأعمى والمطلق اللَّصيق بمنطق المبالغة في تقدير وتعظيم الذَّات الفئويَّة والحزبيَّة وحتِّى الشَّخصيَّة في مراتب صناعة القرار على أسس مُبْهمة، ودون امتلاك المقومات الحقيقية لذلك التقدير المبالغ فيه؛ وغير المُسْتَنِد إلى أسباب ومقوِّمات الفاعليَّة والكفاءَة والقوة ؛ مِمَّا كان يفضي في أغلب الأحيان تكرارِ مزيدٍ من خيبات الأمل، عزّزَت في النهاية من طغيان مشاعر فقدان الثقة بالنفس، وأدت إلى الإخفاق وتعميق الأزمات؛ بدلاَ من أن تؤدِّي إلى استخلاص العبر في معالجتها ومعالجة آثارها؛ كما كان مُفْتَرَض !!.
كل ذلك مدعاة لضرورة التمييز بين نَمَطَيْنِ من التفكير أو الأفكار هما: الأفكار الرأسيَّة والأفكار الجانبيَّة، ومقدار حاجتنا لكلٍّ منهما. يُلاحظ أنَّنا نتمسَّك بالأفكار الرأسيَّة – وهي طريقة في التفكير تشبه استمرار الحفر عميقاً في مكان واحد وفي حفرة واحدة بذات الأدوات التي ثبت فشلها وبدون طائل – فيما نحاول تجنُّب توليد الأفكار الجانبيَّة التي تقتضي التفكير بأسلوب ديناميكي أكثر فعاليَّة، والَّتي هي بمثابة الحفر في مكان جديد وبأدوات أكثر مُلاءَمة وحداثة؛ فما زلنا نحفر في ذات المكان بأفكار رأسيَّة أثبتت التجربة وسياقات الواقع والوقائع عدم كفاءَتها وجدواها؛ ولأنَّنا باختصار لا نملك جرأة مراجعة الأفكار، ولا نمتلك إرادة واعية مدركة بعيدة عن مفاعيل وضرورات المصالح والرَّغبات الفئوية والشَّخصيَّة المُتقوْقِعة في شرنقة تقديس وتبجيل ذواتنا القبليَّة والثقافيَّة والفئويَّة والحزبيَّة؛ فسنبقى في طور الإعاقة على صعيد كلٍّ من الوعي والسُّلوك الجماعي.