السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

يوميّات حَلب (كما أشتَهي)، فاطمة الخلف - سوريا

من مذكّرات قيد الطّباعة

2018-09-03 08:40:14 PM
يوميّات حَلب (كما أشتَهي)، فاطمة الخلف - سوريا
فاطمة الخلف

في حلب، يقال أنّ الحرب انتهت، وأثار القتل قد زالت من هذه المدينة التي لطالما عانى كلّ شبر فيها من الغرق، ببحر من الدّماء، في هذه المدينة قُتل الكثير، وشرّد الكثير، واختفى الكثير الكثير، أقطن في حيّ الفرقان أحد أحياء حلب، حيٌّ كان قبل الحرب يتمتع بالهدوء، ويعدّ من الأحياء الراقية، أما الآن فهو الحيّ الأكثر شعبيّة في حلب، يباع هنا كل شيء قد يخطر على بالك، من الصابون حتّى الخضار الذي كان يباع بسوق الهال سابقًا، هنا تجد الفقير والثري في ذاتِ الشارع، أحدهم ينام على حافة الرّصيف، والآخر يمشي نحو سيارته الفارِهة: الرانج روفر مثلًا.

لم تعد حلب كسابق عهدها، لم تعد كما كانت قبل الحرب، اختفى سكانُها، هاجروا، أو رحلوا نحو المقابر بلا تذاكِر، ورغم ذلك ما زالت تعجّ بالسكان، لكن لم تعد تلك الروح التي لطالما عهدتها بين أحيائها، لم تعد الحِجارة كما كانت مصفوفة كأوراق الشّجر، فأمسى الشّتاء هنا صيفًا، والربيعُ خريفًا، وأصبح كلّ شيء يتساقط، حتّى الأجساد باتت تسقط بشكل متتالٍ، حتّى أصبحَ من الصّعب توقّع أدوار السّقوط.

 في سِنين الحَرب عشتُ أحداثًا مختلفة، ربما أنا الأقل خسارة بينَ أهل حلب في هذه الأزمة، اختفى الكثير من حولي فجأة، وأصبح والداي مجرد زائرين لمنزلنا، و رزقنا بأحفادٍ رائعين، لم نحظَ برؤيتهم إلا من خلال الصّور، منزلي الذي كان يسكنه عشرَة أشخاص، أصبحنا اليوم فقط أربعة، ليس فقط في المنزل وحتى في حلب كلّها، تزوج إخوتي، و رحلوا لبلد آخر، بحثًا عن حياة لأطفالهم، و ما كان على والديّ إلا أن تناوبوا  في العيش بيننا وبين باقي إخوتي، الحياة باتت أصعب، لم نعد نشعر بشيء، أصبح هذا المنزل ملجأ للنوم والدفء في الشتاء ليس أكثر، ربما أنا الأقل خسارة من بين كل من كان قدره حلب، لكن لم أعد أشعر بشيء، وفقدت البهجة التي كنتُ أحسدُ عليها منذُ بدأت الحرب.

قبل عدّة أعوام وبتاريخ مماثل لليوم، كانت الأمطار غزيرةً، وكان الجوّ داخلَ المنزل دافئًا يشوبه أصوات ضحكات، وتكلّله رائحة العجين المخبوز، كانت أمي تصرخُ على أبناء إخوتي الذين ملؤوا البيت بضجيج أصواتهم وضحكاتهم، قبل عدّة أعوام، وفي مثل هذا اليوم، كانَ أبي يركنُ سيارته، وإخوتي يصعدون إلى المنزل محمّلين بأطيب أنواع الفواكه، والحلويات، ويركض الصِّبية لمعانقة جدّهم وتقبيل يده، قبل عدّة أعوام أيضًا كانت أمي تحضّر الطعام للاحتفال بأوّل أيام العيد برفقة أختي التي غادرت منذ زمن هذه الأرض، وتخطط للذهاب إلى خالتي بعد صلاة التّراويح، خالتي التي لم تعد تسكن في هذا الوطن، قبل عدّة أعوام كنّا نعيش هنا.

أما لآن باتت الذّكريات مختلفة، فأنا أذكر جيدًا قبل شهر ونصف وربما أكثر من الآن كيف كانت حلب، أصوات الرّصاص هذه المرّة كانت للتعبير عن الفرح بانتهاء مأساة حلب كما كانوا يزعمون، أصوات عنيفة كنّا قد اعتدنا على مثلها، فأنت مقيمٌ في حلب.. أخطر مدينة كما كانوا يصفون هذه المَدينة البائسة، الزغاريد تكاد تقتلع حَناجر النساء من شدّتها، والتكبيرات ترتفعُ أكثر من الطائِرات، وكأنّ اليوم أوّل أيام العيد، وصديقتي تسرد علينا قصة ابن اختها، كيف عاد والدمع نهرٌ على وجنتيه، قالت: ذهب ابن أختي اليوم إلى منطقة صلاح الدين، فأوقفه اثنان من قطّاع الطريق (شبيحة)، واتّهم بأنه إرهابيّ، وفي النّهاية أخذوه إلى مكان مغلق، وقالوا له: أعطينا ما لديك، تمنّع الشاب الصّغير، فخيّروه بينَ صَدره، وما لديه، استسلم، وأعطاهم، فسَمحوا له بالذّهاب، أيّ نصر كانوا به يحتفلون ؟؟؟

قالوا انتهت الحَرب، والرّصاصة تسبحُ في جوف السّماء