الحدث- محمد غفري
إن أخطر ما قد يواجه الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي هذه الأيام هو العدو القادم من الداخل، بمعنى أسرى فلسطينيين ليسوا بالعصافير (مصطلح يطلق على العملاء داخل السجون)، وإنما أسرى يجندون لخدمة سياسات مصلحة السجون، وإجهاض نضالات الأسرى العادلة.
رجال "الكابو" هو المصطلح الذي أطلق على هؤلاء، وهم أسرى فلسطينيين ينتشرون داخل السجون ويعملون ضد زملائهم المعتقلين، مارست عليهم سلطات الاحتلال على مدار سنوات طويلة عمليات هندسة ذهنية، أو "صهر للوعي" كما وصفها الأسير وليد دقة، حتى وصلوا إلى هذه المرحلة من التواطؤ.
تعود كلمة "الكابو" إلى التسمية التي تطلق على الشخص الذي كان الألمان يختارونه أثناء الحرب العالمية الثانية من بين سكان الجيتو من اليهود، ليمثل حلقة الوصل بينهم وبين باقي السكان، وكثيرًا ما كانوا هؤلاء يتعاونون مع القوات الألمانية لينقلوا الأخبار وأماكن المخابئ السرية، وذلك مقابل امتيازات مادية وأحيانًا مقابل عدم نقلهم كالباقين إلى محارق الحل النهائي.
وفي جلسة يجاز وصفها بالحميمية، تحدث رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين عيسى قراقع عن تفشي ظاهرة رجال "الكابو" بين الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال.
قراقع الذي وصف ظاهر "الكابو" بالظاهرة الأخطر في سجون الاحتلال أكثر من مرة خلال الندوة التي نظمها ملتقى نبض الشبابي في رام الله يوم الثلاثاء 28 آب الماضي، وتابعها مراسل "الحدث"؛ أكد على أن "الكابو" كانت ظاهرة في السجون النازية، بحيث كانت إدارة السجن تقوم باستدعاء سجين وتقوم بتشغيله معها، ويصبح أداة بيد إدارة السجن لقمع زملائه المعتقلين.
"الكابو" الفلسطيني
يقول عيسى قراقع، الذي أقيل مؤخراً من منصبه، إن "الكابو" جزء من الهجمة الإسرائيلية على الأسرى، بحيث يتم برمجة الأسرى وهندستهم، حتى أن رجال "الكابو" أصبحوا كثر في السجون.
يعمل رجال "الكابو" بحسب قراقع ضد زملائهم الأسرى، أو يقومون بتمرير سياسة مصلحة إدارة السجون على زملائهم المعتقلين.
"رجال الكابو يقومون بالمزايدات على غيرهم من الأسرى ويرفعون الشعارات الوطنية، وهم بالحقيقة ليسو كذلك، بل هم يعملون وبشكل واضح لمصلحة السياسة الإسرائيلية داخل السجون" هكذا وصفهم قراقع.
وأشار الوزير السابق للأسرى، أن أخطر ما يقوم به رجال "الكابو"، هو العمل من أجل السيطرة على المعتقلين وإرهابهم وتخويفهم، ومنعهم من اتخاذ أي قرارات أو مبادرات جريئة ضد إدارة السجون دفاعاً عن حقوقهم.
وأكد قراقع على أن إسرائيل نجحت في صنع هذه الحالة داخل السجون، ونجحت في السيطرة على الحركة الأسيرة، ولهذا باتت الحركة الأسيرة مفككة ومشتتة وغير قادرة على الوحدة.
وتحدث قراقع على هامش الندوة بحسرة أنه لا يوجد هذه الأيام ثقافة في السجون، ولا توجد حياة تنظيمية، وبالعكس تسود المفاهيم الفردية والشخصية على حياة المعتقلين بشكل عام، ولم تعد السجون كما كانت قلاع وأكاديميات تخرج الكوادر، مؤكداً أن "إسرائيل هجمت على المعقلين لدرجة أنها فرغت الكثير من المفاهيم، التي يجب أن تكون لدى المعتقلين الفلسطينيين".
اعتراف الأسرى بانتشار رجال "الكابو"
يقول الأسير الفلسطيني وليد دقة، وقد دخل السجن قبل 34 عاماً وما زال حتى اليوم، إن الانتهاكات في حالة الأسرى الفلسطينيين انتهاكات ناعمة لكن فاعليتها ودمارها يحدثان بشكل استراتيجي وأدواتها ليست بسيطة كالهراوة مثلاً؛ وإنما مركبة تحتاج لمجسات عالية الحساسية قادرة على كشف حجم الدمار الذي تحدثه.
وبحسب ما كشف دقة في مقال نشر له العام الماضي بعنوان "الكابو الفلسطيني وإشكالية الإطار المفاهيمي للجان حقوق الإنسان"، أنه من الأدوات التي تستخدمها إسرائيل في أحيانٍ كثيرة هم أسرى يقومون بدور "الكابو"، ويستخدم "الكابو" في الأوضاع والظروف العادية، فلا يظهر في هذه الظروف إلاّ كمقدم خدمات للأسرى، ولكنه عند المحاكمات التي تعتبرها مصلحة السجون مفصلية كالإضراب عن الطعام لاسيما الإضراب الأخير؛ ظهر "الكابو" منتمياً كلياً لمشروع السجان خادماً طبيعياً ومعرقلاً فاعلاً لأي إضراب أو تحرك يهدف لانتزاع الحقوق لا استجدائها.
عيسى قراقع تحدث هو الآخر عن دور "الكابو" في الإضراب الأخير، عندما قال: "في الإضراب الأخير (إضراب الحرية والكرامة) العام الماضي لعب رجال الكابو المنتشرين في السجون دوراً كبيراً في إجهاض الإضراب ومحاولات كسر الإضراب والتحريض على الإضراب".
كيف يصبح الأسير رجل "كابو"؟
يقول الأسير وليد دقة، في دراسة له بعنوان "صهر الوعي، أو في إعادة تعريف العذاب"، نشرت نهاية تموز عام 2009 من داخل سجن "جلبوع"، إن مصلحة سجون الاحتلال قامت بإلغاء العمل بلجنة الحوار أو لجنة ممثلي الأسرى.
وقد كان لكل سجن في السابق لجنة تمثل كل الأسرى المتواجدين في السجن، وتتألف من مندوبي الفصائل المنتخبين، ومهمتها الإجتماع مع المسؤولين في السجن أو ضباط إدارة السجون لطرح قضايا ومطالب الأسرى المشتركة.
وأضاف دقة، أنه العمل تحقق بهذا الفهم وثبت بعد نضالات وتضحيات قدمتها الحركة الوطنية الأسيرة، ولكنها استبدلت هذه الآلية بالعمل على فرز ناطق باسم كل قسم، وهو عمليًا ناطق باسم منطقة، حيث يمثل قسماً لمنطقة جغرافية.
وهنا أوضح دقة كيف يصبح الناطق باسم القسم ناطقاً باسم منطقة جغرافية، عندما تعمل إدارة السجون على إجراء تنقلات بين السجون، وتجميع أسرى من نفس المنطقة الجغرافية في نفس القسم، بما يخدم تقوية نفوذ أسير على حساب أسرى آخرين، فيما لو جرت أي انتخابات داخلية لاختيار مندوب يمثل الأسرى في أحد الأقسام.
ويُحدد هذا المندوب من قبل إدارة السجن وبموافقتها بعد أن يسمي الأسرى اسمين أو ثلاثة لتصادق إدارة السجن على واحد منهم.
وتابع دقة في دراسته، أن السلطة التي يمتلكها مندوبو الأقسام ممن يسعى الاحتلال لجعلهم "كابو" "تستمد قوتها من جهة من إدارة السجون عبر التنقلات التي تجريها للأسرى بين السجون بما ينسجم ومصلحة شخوص هذه السلطة ويعززها، إن كان بتجميع المقربين منها أو توزيع الخصوم، بل إن بعض الممثلين للأقسام تحولوا إلى "كابو" فعلاً".
ومن جهة أخرى، يستمد هؤلاء سلطتهم من السلطة الفلسطينية التي تمنح هؤلاء الأسرى قوة، حيث يشكلون عنق الزجاجة التي عبرها يصل الدعم المالي، وتحل الإشكالات الإجتماعية لأسرة الأسير، أو يتابع أمر راتبه الشهري. وهكذا، وبهذا المعنى تعزز السلطة الفلسطينية من حيث تدري أو لا تدري مشروع فكفكة القيم الجامعة للأسرى.
ويتم الاجتماع بمندوبي الأقسام ليس بشكل جماعي وإنما بكل مندوب على انفراد، ويحق للمندوب طرح قضايا قسمه أي منطقته فقط، وهي في الغالب مطالب فردية وفي نفس الوقت يقوم هذا المندوب بنقل تحذيرات وتوجيهات وضوابط إدارة السجن للأسرى.
وبهذا فرغت إدارة السجون التمثيل الاعتقالي للأسرى من محتواه الوطني الحقيقي، بحيث أصبح أقرب إلى "الكابو" منه لممثل أسرى.
وهذا الحال بعكس لجنة الحوار التي كانت مهمتها تقديم مطالب جماعية للأسرى، بل وتقديم مطالب عامة تخص كل الحركة الأسيرة في كافة المواقع، كما أكد الأسير وليد دقة.
"سأجعلهم يرفعون علم إسرائيل"
وليد دقة، قال في دراسته إننا وعندما نتحدث عن التعذيب في سجون الاحتلال، وضرورة أن يُقدم له تعريف جديد؛ فإنما يجب أن يشمل هذه السياسات وهذه النظم غير الحسيّة وغير المباشرة، التي تهدف للتدخل في تفكير الأفراد في إطار عملية مسح دماغي زاحف ومتدرج وممنهج، وتحاول أن تهندس الجماعة السياسية وتدخل في العمليات الإجتماعية وتسيطر عليها وعلى نتائجها.
وأشار وليد دقة إلى حادثة فريدة في تاريخ السجون عندما عبر مدير السجون السابق يعقوف جنوت عن هذا الهدف وهذه الرغبة بالسيطرة على الأسرى، في حديث له أدلى به في إحدى ساحات سجن "جلبوع" بعد تسلم وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جدعون عزرا الوزارة عام 2006 موجهًا حديثه للوزير وعلى مسمع من الأسرى:
"إطمئن... عليك أن تكون واثقًا بأنني سأجعلهم (الأسرى) يرفعون العلم الإسرائيلي وينشدون التكفا".
الأسير المحرر عصمت منصور
مدى انتشار "الكابو"
عصمت منصور، أسير محرر أمضى في سجون الاحتلال ما يزيد عن العشرين عاماً، يقول إن ما يزيد عن 80% من ممثلي الأسرى يقتربون هذه الأيام بشكل كبير من صفة "الكابو" سواء بوعي مقصود، أو من غير وعي، وهذا يشمل الأسرى من كافة الفصائل.
وبحسب منصور، فإن غالبية الأسرى القدماء الذين مضى على اعتقالهم ما يزيد عن 20 عاماً أو أسرى ما قبل اتفاق أوسلو (عمداء الأسرى) مستنكفين هذه الأيام عن العمل التنظيمي، إما بحكم العمر، أو نتيجة للفترة الطويلة التي قضاها في الأسر، وهؤلاء يقدر عددهم بالعشرات، وبالتالي لا تنتشر بينهم ظاهرة "الكابو".
بينما تنتشر هذه الظاهرة كما أكد منصور لـ"الحدث"، في صفوف الأسرى المعتقلين من الانتفاضة الثانية، والذين يوصفون بالحماس المفرط دون وجود وعي تنظيمي شامل لديهم، فهم لم يعيشوا في الفترات السابقة للأسرى التي سادت فيها التقاليد والقيم التي تتعلق بالعمل الاعتقالي والوطني، وكانت تضبط هذه القيم عمل ممثل الأسرى.
وذكر منصور أنه على سبيل المثال يكون ممثل أسرى الجهاد غير متواطئ مع الإدارة، فتقوم إدارة السجون بمنح امتيازات لممثلي أسرى باقي الفصائل، وتقوم بحل كافة إشكالياتهم من زيارات وتنقلات، ولكن يحرم أسرى الجهاد منها، وبالتالي يضطر ممثل أسرى الجهاد إلى مسايرة هذه السياسة.
وأشار منصور لقصة حقيقية، أنه خلال فترة اعتقاله الطويلة كان أحد ممثلي أحد أهم السجون وأكبرها لسنوات طويلة هو رجل يكاد يوصف بـ "كابو"، حيث منحته الإدارة امتيازات في التنقل بين الأقسام بحرية تامة ودون تفتيش، ومنح نوعا من الحصانة وامتيازات أخرى. مضيفاً "حتى أننا كنا نضطر إلى منحه أجهزة الهاتف لكي يخفيها في جيبه عندما تكون هناك حملة تفتيش، لأن إدارة السجن لا تقوم بتفتيشه، وبالتالي بات هذا الأسير مقدس لدى بقية الأسرى، وكل هذا بفضل ما منح من امتيازات من قبل إدارة السجون".
وتتفشى هذه الظاهر بحسب الأسير المحرر عصمت منصور في سجن مجدو والنقب وريمون وعسقلان، وأقل سجن يكاد يكون هو سجن عوفر.
كيف يتخلص الأسرى من رجال "الكابو"؟
لن يرفع الأسرى الفلسطينين العلم الإسرائيلي بخلاف ما كان يطمح بالوصول إليه يعقوف جنوت، ولكن علينا أن نقر بأن مصلحة سجون الاحتلال استطاعت عبر سنوات طويلة أن تخلق ظاهرة "الكابو"، وهنا لا بد من قرع ناقوس الخطر ولو كان بشكل متأخر للخلاص من هذه الظاهرة على هول خطورتها.
وبحسب ما قال عصمت منصور لـ"الحدث"، فإن الخلاص من ظاهرة "الكابو" بشكل أساسي يكون بإعادة وحدة الفصائل داخل السجون، وعودة العمل بشكل موحد ومشترك على معالجة قضايا الأسرى، وهنا يقصد بشكل أساسي فصائل حماس وفتح لما لهما من ثقل داخل السجون.
الأمر الثاني بحسب منصور هو مطلوب من المؤسسات والجهات في خارج السجون والتي تتواصل مع الأسرى، أن لا تتعامل مع ممثلي الأسرى بشكل منفرد، وأن لا تمنحهم المزيد من السلطة الفردية على بقية الأسرى، وإنما أن يتم العمل على أساس لجان تمثل كافة الأسرى، والتوقف عن التعامل مع القضايا الشخصية.
وأضاف منصور، أن ما يجري داخل السجون بشكل خاص، هو انعكاس للمرحلة السياسية التي تمر بها القضية الفلسطينية بشكل عام، من حيث سيادة التنافس على المناصب، وتراجع القيم الوطنية وروح التضامن والتضحية، والبحث عن المكاسب الشخصية، وبالتالي ما هو مطلوب هو رد الاعتبار للقضية وإعادة تعريفها على أساس وطني.
وختم منصور يتحدث عن آلية القضاء على ظاهرة "الكابو" في السجون، بنوع من التفاؤل عندما أشار إلى أنه في مراحل الجزر والتراجع في الثورات والمجتمعات تطفو على السطح كل الظواهر السلبية، وحالات التفسخ الاجتماعي والوطني والتي يستغلها العدو لاختراق هذا المجتمع.
وبالتالي فإن عودة روح المقاومة والمد الثوري بحسب منصور أمر كفيل بإنهاء هذه الظاهرة العابرة في تاريخ الأسرى، لأن ما هو أصيل في الحركة الأسيرة هو قيمها وتضحياتها وشهداؤها وما كرسته من إنجازات وتقاليد على مدار السنين، حتى وإن توارت ولم تعد مرئية، فإنها كامنة في وجدان السواد الأعظم من الأسرى.