قبلَ سنوات كنتُ أخطو أوّل الخطواتِ الحقيقيّة نَحو العَمل الثّقافيّ، فبينَ ليلةٍ وضحاها –عشيّة نشر عمليَ الأوّل- وتحديدًا في فصليَ الجامعيّ الثاني قرّرت أنا وعدد مِن الزّملاء والأصدقاء تأسيسَ المنتدى الثّقافيّ والأدبيّ في جامِعة القدس؛ ليكونَ حاضِنة ونواةً تربِط طلبة الجامِعة بالمؤسّساتِ الثقافيّة، وليكونَ رافعة للعَمل الثّقافيّ المقاوِم، الذي يشكّل عبرَ تاريخ النّضال الفلسطينيّ حالةً ثوريّة توازي العَمل المسلّح أو السّياسي –ليسَ على حد سواء-، فانطلَق هذا المُنتدى بدعمٍ مطلقٍ من عمادة شؤون الطّلبة، ورئيس الجامِعة، وأحباء مقتنعينَ بل مؤمنينَ بالفِكرة.
كانَ أوّل سؤال يوجّه إليّ عندَ التّحضير لأيّ اجتماعٍ أو فعاليّة -حيث ترأستُ المنتدى لمدّة عامٍ ونصف-: (كَم عُمرك؟)، وللمفارقة فقد كنتُ أصغر الأعضاء أوّل الأمر، وكنت وما زِلت هزيلًا صغيرَ الحجم، طويلًا أكثر مما ينبغي، بشكلٍ غير متناسِق ربّما، لا اعتِراضَ على هذه التّضاريس الإلهيّة، المهمّ في الأمر أنّ السّؤال ظلّ يلاحِقني بشكلٍ مُلح حتّى تخرّجي، ثمّ أعمالي المتعدّدة المتقطّعة، ولعلّ عدمَ اقتناعِ إحدى الأمّهات أنّني نفسي الذي تدرس ابنتها قصيدته في مِنهاج الصّف الرابِع كانَ أطرف هذه المواقف، وأقلّها خبثًا، ولعلّ سؤالَ أحدِ مدّعي الثقافة السّبعينيين كانَ عكسَ ذلك تمامًا.
عليّ أن أعترف قبلَ أن أكمِل أنّ المنتدى الثّقافي كانَ نقلة نوعيّة للثقافة في الجامِعة، فلن يفوتَني أن أشكُر كلّ السّواعِد التي بَنَت وعمِلت واجتِهدت فأصابَت، وكلّ السّواعِد التي وقفت صفًا متينًا إلى جانِبنا، وسأعترفُ أيضًا أنّ هذا المنتدى أصبحَ فكرة وذاكِرة الآن، فلم ننجَح على ما يبدو في الحِفاظ على استمراريّته بعدَ تخرّجنا، وإن كُنّا نطمح ونأمل ونعمل على هذا.
على أيّة حال فقد عَرفتُ الوسط الثقافيّ بشكلٍ عام، ولكنّني لم أعرِفه جيّدًا إلّا بعدَ استِلام د. إيهاب وزارة الثّقافة. عرفتُ د. إيهاب عَن بعد، قبلَ أن يكونَ وزيرًا، وأظنّ أنّني دعوته لحفلِ إطلاق عَملي الأوّل لكنّ ظروفًا حالت دونَ حضورِه، وعرفته مِن خلالِ نصوصِه التي تضجّ بالصّخب الداخليّ، وبالصّراع المُرّ بينَ الجُنود والإرادة الفلسطينيّة، ومِن لغته الخاصّة، وأعجبتُ كثيرًا بقدرته المُفرطة على التّحدث بطلاقة وبأخطاء لغويّة شبه معدومة، ثمّ عرفته وزيرًا؛ لهذا عندَما أكتب له أو عَنه أقول الشاعِر الوزير، وليسَ العكس.
لستُ بصددِ الحَديث عَن د. إيهاب كفرد، أو شَخص، أو عَن سِماتِه الشّخصيّة، بل عنه كحالة شبابيّة متقدّمة، فهو أصغر وزراء الحُكومة – 37 عامًا ونصف تقريبًا عندما أصبح وزيرًا- ، ومِن هُنا يُمكننا أن نبدأ عهدَ وزارة الثّقافة الجَديد، ومِن هذه التّجربة يُمكننا أن نعلي أصواتَنا مطالبينَ بتمكينِ الشّباب، وإيقاف كهولة مؤسّساتنا الثّقافيّة، والسّياسيّة، والاقتصاديّة، وكهولة حركاتِنا السّياسيّة حتّى!، ومن هُنا أيضًا نستطيع أن نُبصِر انفِتاح الثّقافة الفلسطينيّة على العالَم العربيّ والإسلاميّ والدّولي بشكلٍ غير مسبوق، فمن اجتِماعات الألكسو وقرارتِها، إلى معارِض الكِتاب، والاتّفاقيات العربيّة، وقرارات وزراء الثّقافة العرب، ومرورًا بفعاليّات القدس وحضورها المستمر، وليسَ انتهاءً ببيت لحم 2020.
إنّ كلّ متابعٍ للحالة الثّقافيّة يدرك حجم العَمل الذي أبدعه د. إيهاب وطاقم الوزارة في مأسسة العَمل الثقافيّ، ويدرك أهميّة إعطاءِ الشّبابِ فرصًا رياديّة؛ لتسري الدّماء شابّة جديدة نضِرة مِن جديد في جسَد المؤسّسات الوطنيّة الفلسطينيّة التي بنيت بشِق الأنفس، وبجهودٍ جبّارة، لهذا فإنّ رؤية وزارة الثّقافة اليوم تقومُ على إشراك الشّباب في الفعل الثقافي، ومنحِهم الفُرص الرّياديّة لنشر إبداعهم، وتقديمهم إلى المُجتمع كحالةٍ ثقافيّة شابّة مقاومة تكمِل ما بدأه شعراؤنا وكتّابُنا الكِبار، وتقومُ على أساس الشّراكة والدّعم والمسانَدة لا على تطبيق وصاية بأيّ شكلٍ من الأشكال على نتاجِ وتوجّهاتِ المُبدعين.
إنّني لا أطالبُ هُنا أن يكونَ كلّ الوزراء شبابًا، ولا كلّ المدراء، أطالبُ فقط بالتّوزيع العادِل، وخلقِ الفرص، وحريّة العَمل الوطنيّ والثقافيّ، ففي كلّ مدينة فلسطينيّة هُناك إيهاب بسيسو جديد يريدُ العَمل، والإبداع، وتحقيق الإنجازات، وفي كلّ قرية فلسطينيّة تتكوّم الأفكار والطّموحات والمشاريع في عقول الشّباب، وفي كلّ مخيّم تستعدّ الصّدور –الدّروع لتكونَ جدارَ الوطن ومتراسَه الأخير في وجه تزوير التاريخ، والعنصريّة، وادّعاء الحقّ، ومشاريع التّسوية المَزعومة، علينا أن نتحدّى مظاهِر الكهولة، وأن نتركَ فرصة للفسائِل القويّة الصّحيحة أن تنمو جنبًا إلى جنب مع أشجار الزّيتون التي تضربُ جذورها في عمقِ الأرض –الوَطن؛ كي تستمرّ الفكرة الكبيرة، وتتسع الدّولة لها، ولنا في تَجربة وزارة الثّقافة قدوةٌ حسنة.