الحدث- محمد غفري
وسط رام الله، اختلطت هتافات الحناجر مع أصوات نحيب الأمهات الثكلى وما ذرفته أعينهن من الدمع، عندما شارك العشرات من أهالي الشهداء المحتجزين لدى الاحتلال الإسرائيلي، في مسيرة يوم الأربعاء 29 آب الماضي، تطالب باسترداد جثامين الشهداء المحتجزين.
لم تسعفها سنوات عمرها الطويلة على اللحاق بركب المسيرة التي انطلقت من أمام ضريح الشهيد ياسر عرفات، وعلى مهل سارت خلفهم تحتضن صورة لابنها الشهيد صفوت عبد الرحمن خليل، وفي يدها اليسرى العلم الفلسطيني، حتى وصلت إلى ميدان المنارة وسط رام الله.
تقول السيدة نزيهة خليل من قرية بيت وزن قضاء محافظة نابلس، إن نجلها الأصغر صفوت قد استشهد بعد أن قام بتنفيذ عملية استشهادية في وسط مدينة تل أبيب، ولم يتجاوز من العمر في ذلك الوقت 18 عاماً.
"انحرق قلبي من جوا على صفوت"
تنفض ذاكرتها من جديد، وتعود بنا إلى يوم الجمعة 25 كانون الثاني عام 2002، وتقول إنها في ذلك اليوم كانت تتلقى العلاج في مستشفى رام الله الحكومي برفقة أحد أبنائها.
وبعد انتهاء العلاج، ذهبت إلى منزل ابنتها في حي أم الشرايط في مدينة رام الله، وتحديداً عند صلاة الظهر، قال زوج ابنتها إن عملية استشهادية قد وقعت اليوم، فردت عليه تقول "مين هي أمو سعيدة الحظ، الله يصبرها" وكانت تقصد والدة الشهيد منفذ العملية.
تواصل سرد قصتها لمراسل "الحدث"، أن عدداً من الاتصالات بدأت تتوارد إلى منزل ابنتها وزوج ابنتها، حتى دخلت على ابنتها وكانت تبكي في غرفتها، فسألتها تقول "ليش بتعيطي يا أمي؟"، وبشكل عفوي سألتها مجدداً "أخوكي صفوت استشهد؟"
وقتها كانت انتفاضة الأقصى الثانية في أوجها، ودبابات الاحتلال تغلق المدن الفلسطينية من كافة الاتجاهات، وبشق الأنفس وصلت بمساعدة سيارات الإسعاف إلى قريتها بيت وزن في نابلس.
لم تودع نزيهة خليل فلذة كبدها، فقد احتجزته سلطات الاحتلال عقب العملية في مقابر الأرقام، وما زالت ترفض تسليم جثمانه حتى اليوم، دون تقديم أي معلومات عنه.
والدة الشهيد أكدت على حقها في استرداد جثمان ابنها لتدفنه على الشريعة الإسلامية، وتدفن مع الجثمان جرحها ووجعها النازف طوال 16 عاماً.
ختمت تقول لمراسل "الحدث": "والله يا خالتي أنا بشعر بالفخر، بس بشعر بالحزن في نفس الوقت، وانحرق قلبي من جوا على صفوت".
جثمان ولدي حررت الأرض التي دفنت فيها
ربما لم تستطع الحاجة نزيهة كبح جماح دموعها أمام من حضر المسيرة، إلا أنا علامات الفخر والعز بدت ظاهرة للعيان على شيخ آخر طاعن في السجن غزا الشيب شعره الأشعث، كان يحمل لافتة كبيرة عليها صورة للاستشهادي نائل أبو هليل.
"أنا عزمي أبو هليل من بيت لحم، والد الاستشهادي القسامي نائل أبو هليل، منفذ عملية الرد الخامس على اغتيال صلاح شحادة بتاريخ 21/11/2002، والتي أسفرت عن قتل 21 صهيونياً، وجرح فيها 41 آخرين".
بكل هذه القوة عرّف عن نفسه لمراسل "الحدث"، وواصل يقول "منذ ذلك الحين لم نتسلم الجثمان حتى ندفنه بالطريقة الإسلامية التي تليق به".
يؤكد الحاج أبو هليل، أنه بحسب ما وصل إليه من معلومات فإن نجله مدفون حتى اليوم في مقبرة الأرقام التي تقع بجانب ما يعرف بجسر بنات يعقوب.
كان من المفترض أن يقوم الاحتلال بتسليم جثمان الشهيد نائل أبو هليل إلى جانب رفاة عشرات الشهداء الآخرين، ولكن الاحتلال عاد وتراجع عن قرار التسليم، وربط قضية التسليم بقضية مصير الجنود الأسرى في قطاع غزة، بحسب ما ذكر والده.
لذلك يواصل عزمي أبو هليل المطالبة باسترداد جثمان ابنه، قائلاً "احتجاز الجثمان جريمة بعد انتقال الروح إلى ربها وما يتم هو عقاب لنا نحن الأهل، ومع ذلك نرفض الخضوع لأي عمليات مساومة، وربط القضية بقضية الجنود الأسرى لدى المقاومة في غزة".
وفيما لو واصل الاحتلال رفض تسليم جثمان ابنه، رد على مراسل "الحدث"، "لو لم نتسلم الجثمان هو مدفون الآن في أرض قام بتحريرها".
لم نتسلم أي أوراق تثبت وفاته.. قد يكون معتقلاً
وفي الوقت الذي لم تستطع فيه والدة الشهيد شادي نصار الحديث إلى مراسل "الحدث"، تولى زوجها هذه المهمة الصعبة لما يرافقها من إحياء لأوجاع قديمة جديدة، وقال "ولدي الشهيد شادي نصار، الذي استشهد يوم 7/3/2002، عندما قام بتنفيذ عملية استشهادية داخل مستوطنة آرئيل".
محمد نصار، من قرية مادما قضاء محافظة نابلس، تحدث عن نجله الشهيد وقد كان الأكبر من بين خوته، قائلاً "كان يعمل معي في أعمال البناء، وعندما بدأت الانتفاضة توقف العمل، وعمل أيضاً على آلة تعبيد الطرق".
وفي يوم استشهاده كان شادي يبلغ من العمر 23 عاماً، يصف والده ذلك اليوم "كان يوما أسودا يوم تلقينا نبأ استشهاد شادي وشكل لنا صدمة".
لم تتوقف الصدمة ولم ينته عذاب والدي الشهيد شادي نتيجة لاحتجاز الاحتلال جثمانه في مقابر الأرقام، "ما زلنا في الصدمة لغاية الآن، لأننا لم نقم بدفن الجثمان".
لربما نتهم والد الشهيد شادي بالجنون عندما قال "حتى الآن أقول بأنه قد يكون معتقلاً ولم يمت"، وهذا من حقه لأنه لم يتسلم أي أوراق رسمية تثبت وفاة ابنه، ولم يشاهد أشلاء الجثمان، على الرغم من حقيقة كل ما جرى في تلك العملية الفدائية، ويقينه بذلك في جوف صدره.
"ما بقدر أحكي"
"أنا يا ستي اليوم ما بقدر أحكي منيح"، بهذه الكلمات عبرت إحدى المشاركات في نفس المسيرة لمراسل "الحدث" عن صمتها العميق بعدما صرخت طوال نحو خمسين عاماً تطالب باسترداد جثمان زوجها الشهيد والمحتجز في مقابر الأرقام لدى الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1969.
هذه الحاجة بما يملأ وجهها من تجاعيد، خرجت لا تحمل سوى صورة "عتيقة" لزوجها الشهيد الذي تعود أصوله إلى بلدة طمون قضاء محافظة جنين.
أرقام وحقائق
وفق الحملة الوطنية لاستراد الجثامين والتي تأسست عام 2008؛ فإن ما تم توثيقه استنادا إلى بلاغات عائلات الشهداء والفصائل الفلسطينية التي كانوا ينتمون لها، تم احتجاز حوالي 400 شهيد، فيما تم تحرير جثامين 131 منهم، وما يزال 253 شهيدا محتجزا في مقابر الأرقام.
وتؤكد الحملة أن عدد الشهداء الموجودين في مقابر الأرقام يفوق هذا العدد الموثق استنادا إلى المعلومات المتداولة حول المقابر وأعداد القبور داخلها.
وحسب الحملة فإن هناك 68 مفقودا منذ بداية الاحتلال حتى اليوم ولا يعرف مصيرهم وينكر الاحتلال أي معلومات حولهم.
ومنذ عام 2015 وحتى اليوم احتجز الاحتلال جثامين أكثر من 220 شهيداً لفترات زمنية مختلفة (من أيام إلى شهور، وبعض الشهداء أكثر من عامين) أفرج عن معظمهم وأبقى على 28 شهيدا محتجزا حتى اليوم.
وتنص اتفاقية جنيف الأولى في المادة 17 بإلزام الدول المتعاقدة باحترام جثامين ضحايا الحرب من الإقليم المحتل، وتمكين ذويهم من دفنهم وفقا لتقاليدهم الدينية والوطنية.
وأقام الاحتلال الإسرائيلي مقابر سرية عرفت باسم مقابر الأرقام، وهي عبارة عن مدافن بسيطة، محاطة بالحجارة بدون شواهد، ومثبّت فوق القبر لوحة معدنية تحمل رقماً معيناً، ولهذا سميت بمقابر الأرقام لأنها تتخذ الأرقام بديلاً لأسماء الشهداء.
ويعلن الاحتلال هذه المقابر مناطق عسكرية مغلقة، وهي غير ثابتة وتتكشف معطيات متضاربة بين فترة وأخرى حولها، وإن كان تم تداول مواقع 4 مقابر معظمها في غور الأردن وقرب الحدود اللبنانية والسورية.
وترفض سلطات الاحتلال الإسرائيلي إعطاء شهادات وفاة لذوي الشهداء أو تقديم قوائم بأسماء من تحتجز جثامينهم وأماكن وظروف احتجازهم، بل اعترفت بالفوضى والإهمال في احتجاز الجثامين وفقدان بعضها.